وفي الآية اللاحقة - والتي هي آخر آيات هذه السورة - بيان ودليل لما جاء في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى: (لئلاّ يعلم أهل الكتاب ألاّ يقدرون على شيء من فضل الله، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(7).
إنّه جواب لهؤلاء الكتابيّين الذين زعم قسم منهم: أنّ لهم أجراً واحداً كبقيّة المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرّسول (ص) وأمّا الذين آمنوا بالرّسول (ص)منهم فلهم أجران: أجر الإيمان بالرسل السابقين، وأجر الإيمان بمحمّد (ص)، حيث يجيبهم القرآن ويردّ عليهم بأنّ المقصود بالآية هم المسلمون.
فهؤلاء هم الذين لهم أجران، لأنّهم آمنوا جميعاً برسول الله بالإضافة إلى إيمانهم بكلّ الأنبياء السابقين، أمّا أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله فليس لهم أي نصيب أو سهم من الأجر، ذلك ليعلموا أنّ الرحمة الإلهية ليست في إختيارهم حتّى يهبوا ما يشاؤون منها وفق مشتهياتهم، ويمنعوها عن الآخرين.
وهذه الآية تتضمّن كذلك جواباً لما ورد من ادّعاءات واهية من بعض اليهود والنصارى الذين اعتبروا الجنّة والرحمة الإلهية منحصرة بهم، ظانّين أنّ غيرهم محروم منها، حيث يقول سبحانه: (وقالوا لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)(8).
بحث
التقوى والوعي:
لقد بيّن القرآن الكريم آثاراً كثيرة للتقوى، ومن جملتها إزالة الحجب عن فكر الإنسان وقلبه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى إرتباط "الإيمان والتقوى" مع "البصيرة" منها قوله تعالى: (ياأيّها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)(9).
ومنها قوله تعالى: (واتّقوا الله ويعلّمكم الله)(10).
وجاء هذا المعنى صراحةً في الآيات مورد البحث حيث قال تعالى: (إن تؤمنوا وتتقوا سيجعل الله لكم نوراً) على ضوئه تستطيعون السير.
والعلاقة بين هاتين الآيتين - بالإضافة إلى الجوانب المعنوية التي بقيت مجهولة لنا - قابلة للإدراك العقلي أيضاً، لأنّ أكبر حاجز عن المعرفة وأهمّ مانع لها هو الحجاب الذي يغطّي قلب الإنسان، والذي هو هوى النفس والنزعات الذاتية والأماني الفارغة، والآمال البعيدة، والوقوع في أسر المادّة ومغريات الدنيا، حيث لا تسمح للإنسان أن يرى الحقائق بصورتها الطبيعية، وبالتالي فإنّ الحكم على الأشياء يكون بعيداً في منطق العقل والصواب.
إلاّ أنّ إستقرار الإيمان والتقوى في القلوب يبدّد هذه الحجب ويزيل عتمتها وظلامها عن صفحة القلب، ويجعل الروح الإنسانية تفيض بشمس الحقيقة وتتعرّف على الحقائق بصورتها الناصعة وتشعر باللذّة والنشوة من هذا الإدراك الصحيح والعميق للأشياء، وتتفتّح أمامه السبل السليمة للأهداف المقدّسة التي يسعى نحوها ويتقدّم باتّجاهها.
نعم إنّ التقوى هي التي تعطي للإنسان الوعي والوضوح، كما أنّ الوعي يعطي للإنسان التقوى، أي أنّ لكلّ من التقوى والوعي تأثير متبادل بعضهما على البعض الآخر.
ونقرأ هنا في حديث معروف يقول: "لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات".
ولإدراك هذا الحديث نصغي لما قاله الإمام علي (ع): "لا دين مع هوى، لا عقل مع هوى، من اتّبع هواه أعماه وأصمّه، وأذلّه وأضلّه"(11).
ربّاه، احفظنا من هوى النفس وتفضّل علينا بالتقوى والبصيرة.
إلهنا، كلّ الفضل والرحمة بيدك، فلا تحرمنا من فضلك العظيم.
ربّنا، وفّقنا لإقامة الحقّ والعدل والقسط وحراسة حدود الكتاب والميزان والوقوف بوجه الظالمين.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة الحديد
﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ ليعلم ﴿أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ مخففة ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ﴾ مما ذكر ولا ينالونه ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فيتفضل بما يشاء على من يشاء.