لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
آخر آية مورد البحث - والتي هي آخر آية من سورة المجادلة - تعدّ من أقوى الآيات القرآنية التي تحذّر المؤمنين من إمكانية الجمع بين حبّ الله وحبّ أعدائه، إذ لابدّ من إختيار طريق واحد لا غير، وإذا ما كانوا حقّاً مؤمنين صادقين فعليهم إجتناب حبّ أعداء الله، يقول تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخرين يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم). نعم، لا يجتمع حبّان متضادّان في قلب واحد، والذين يدّعون إمكانية الجمع بين الإثنين، فإنّهم إمّا ضعفاء الإيمان أو منافقون، ولذلك نلاحظ في الغزوات الإسلامية أنّ جمعاً من أقرباء المسلمين كانوا في صفّ المخالفين والأعداء، ومع ذلك قاتلهم المسلمون حتّى قتلوا قسماً منهم. إنّ حبّ الآباء والأبناء والاُخوان والعشيرة شيء ممدوح، ودليل على عمق العواطف الإنسانية، إلاّ أنّ هذه المحبّة حينما تكون بعيدة عن حبّ الله فإنّها ستفقد خاصيّتها. وطبيعي أنّ من يتعلّق بهم الإنسان ليس مختصاً بالأقسام الأربعة التي إستعرضتها الآية الكريمة، ولكن هؤلاء أقرب عاطفياً من غيرهم للإنسان، وبملاحظة الموقف من هؤلاء سيتّضح الموقف من الآخرين. ولذلك لم يأت الحديث عن الزوجات والأموال والتجارة والممتلكات، في حين أنّ ذلك قد لوحظ في الآية (24) من سورة التوبة، حيث يقول سبحانه: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين). والسبب الآخر في عدم ذكر المتعلّقات الاُخرى بالإنسان في الآية مورد البحث، هو ما ورد في سبب نزول الآية الكريمة والتي من جملتها أنّ "حاطب بن أبي بلتعة" كتب رسالة إلى أهل مكّة ينذرهم بقدوم رسول الله إليهم، ولمّا إنكشفت الوشاية وعرف أنّ حاطب بن أبي بلتعة وراء هذا الأمر، إعتذر قائلا: "أهلي بمكّة أحببت أن يحوطوهم بيد تكون لي عندهم"(7). وقيل: إنّ هذه الآية قد نزلت بشأن "عبدالله بن أُبي"، الذي كان له ولد مؤمن أراد الخير لأبيه، حيث رأى رسول الله (ص) يوماً يشرب الماء، فطلب من رسول الله سؤره المتبقّي في الإناء ليعطيه لأبيه، عسى أن يطهّر قلبه، إلاّ أنّ الأب إمتنع من شربه وتجاسر على رسول الله. عند ذلك جاء الولد يطلب من رسول الله الإذن في قتل أبيه، فلم يسمح له (ص) بذلك وقال: "بل ترفّق به" يداريه، (وأن يتبرّأ من أعماله في قلبه). ثمّ يتطرّق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة التي سخّرت قلوبها لعشق الله تعالى، حيث يستعرض خمسة من أوصافهم والتي يمثّل بعضها مدداً وتوفيقاً من الله تعالى، والآخر نتيجة العمل الخالص له سبحانه... وفي بيان القسم الأوّل والثاني يقول تعالى: (اُولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه). ومن الطبيعي أنّ هذا الإمداد واللطف الإلهي لا يتنافى أبداً مع أصل حرية الإرادة وإختيار الإنسان، لأنّ الخطوات الاُولى في ترك أعداء الله قد قرّرها المؤمنون إبتداءً، ثمّ جاء الإمداد الإلهي بصورة إستقرار الإيمان حيث عبّر عنه بـ (كتب). هل هذه الروح الإلهية التي يؤيّد الله سبحانه المؤمنين بها هي تقوية الاُسس الإيمانية، أو أنّها الدلائل العقلية، أو القرآن، أو أنّها ملك إلهي عظيم يسمّى بالروح؟ ذكرت لذلك إحتمالات وتفاسير مختلفة، إلاّ أنّه يمكن الجمع بينهما، وخلاصة الأمر أنّ هذه الروح نوع من الحياة المعنوية الجديدة التي أفاضها الله تعالى على المؤمنين. ويقول تعالى في ثالث مرحلة: (ويدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها). ويضيف في رابع مرحلة لهم: (رضي الله عنهم ورضوا عنه). إنّ أعظم ثواب معنوي وجزاء روحاني لأصحاب الجنّة في مقابل النعم الماديّة العظيمة في القيامة من جنان وحور وقصور هو شعورهم وإحساسهم أنّ الله راض عنهم وأنّ رضى مولاهم ومعبودهم يعني أنّهم مقبولون عنده، وفي كنف حمايته وأمنه، حيث يجلسهم على بساط قربه، وهذا أعظم إحساس ينتابهم، ونتيجته رضاهم الكامل عن الله سبحانه. نعم، لا تصل أي نعمة إلى هذا الرضا ذي الجانبين المادّي والمعنوي، والذي هو مفتاح للهبات والعطايا الإلهية الاُخرى، لأنّه سبحانه عندما يرضى عن عبد فإنّه يعطيه ما يطلب منه، فهو القادر والكريم. وما أروع التعبير القرآني: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) أي أنّ مقامهم رفيع إلى درجة بحيث أنّ أسماءهم تكون مقترنة باسمه، ورضاهم إلى جانب رضاه تعالى. وفي آخر مرحلة يضيف تعالى بصورة إخبار عام يحكي عن نعم وهبات اُخرى حيث يقول: (اُولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون). وليس المقصود بالفلاح هنا ما يكون في عالم الآخرة ونيل النعم المادية والمعنوية في يوم القيامة فحسب، بل كما جاء في الآيات السابقة أنّ الله تعالى ينصرهم بلطفه في هذه الدنيا أيضاً على أعدائهم وستكون بأيديهم حكومة الحقّ والعدل التي تستوعب هذا العالم أخيراً ملاحظات 1 - العلامة الفارقة بين حزب الله وحزب الشيطان اُشير في القرآن الكريم إلى حزب الله بآيتين، الآية مورد البحث، والآية (56) من سورة المائدة، وقد أشار في آية واحدة إلى حزب الشيطان، وفي كلا الآيتين التي تحدّث فيهما عن حزب الله، أكّد على مسألة "الحبّ في الله والبغض في الله" وموالاة أهل الحقّ. ففي آية سورة المائدة وبعد بيان مسألة الولاية والحكم ووجوب طاعة الله وطاعة الرّسول، وطاعة الذين أعطوا الزكاة في صلاة (الإمام علي (ع)) يقول سبحانه: (ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون). وفي الآيات مورد البحث - أيضاً - أكّد سبحانه على قطع (الودّ) مع أعداء الله، وبناءً على هذا فإنّ خطّ "حزب الله" هو خطّ الولاية نفسه، والبراءة من غير الله ورسوله وأوصيائه. وفي المقابل عندما يصف "حزب الشيطان"، الذي اُشير إليه في الآيات الآنفة الذكر من هذه السورة، فإنّ أهمّ ميزة لهم هي النفاق وعداء الحقّ والكذب والمكر، ونسيان ذكر الله. والنقطة الجديرة بالذكر هنا قوله سبحانه: (فإنّ حزب الله هم الغالبون) وفي مورد آخر يقول سبحانه: (ألا إنّ حزب الله هم المفلحون) وبالنظر إلى أنّ الفلاح يقترن دائماً مع النصر والغلبة، لذا فإنّ معنى الآيتين واحد مع وجود قيد، هو أنّ للفلاح مفهوماً أعمق من مفهوم الغلبة، لأنّه يشخّص مسألة الوصول إلى الهدف أيضاً. على عكس حزب الشيطان، حيث وصفهم سبحانه بالهزيمة والخيبة وعدم الموفّقية في برامجهم والتخلّف عن أهدافهم. إنّ مسألة الولاية بالمعنى الخاصّ، ومسألة الحبّ في الله والبغض في الله بالمعنى العامّ، ورد التأكيد عليهما في كثير من الروايات الإسلامية حتّى أنّ الصحابي الجليل سلمان الفارسي قال لأمير المؤمنين (ع): ياأبا الحسن، ما اطلعت على رسول الله إلاّ ضرب بين كتفي، وقال ياسلمان "هذا - وأشار إلى الإمام علي - وحزبه هم المفلحون"(8). وحول المورد الثاني - يعني الولاية نقرأ في حديث عن الرّسول الكريم(ص): "ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان"(9). وجاء في حديث آخر أنّه: "قال الله تعالى لموسى: هل علمت فيّ عملا قطّ، قال: صلّيت لك، وصمت وتصدّقت، وذكرت لله. قال الله تبارك وتعالى: وأمّا الصلاة فلك برهان، والصوم جنّة، والصدقة ظلّ والزكاة والذكر نور، فأي عمل عملت لي؟ قال موسى (ع): دلّني على العمل الذي هو لك. قال ياموسى: هل واليت ليّ وليّاً؟ وهل عاديت لي عدوّاً قطّ، فعلم موسى أنّ أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله"(10). وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (ع): "لا يمحّض رجل الإيمان في الله حتّى يكون الله أحبّ إليه من نفسه وأبيه واُمّه وولده وأهله وماله ومن الناس كلّهم"(11). كما توجد روايات كثيرة حول هذا الموضوع في جانبه الإيجابي (حبّ أولياء الله) وكذلك الجانب السلبي (البغض لأولياء الله) ويطول بنا ذكرها هنا، ومن المناسب أن ننهي الحديث عنها بحديث عن الإمام الصادق (ع) حيث يقول: "إذا أردت أن تعلم انّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله عزّوجلّ ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحبّ"(12). 2 - جزاء الحبّ في الله والبغض في الله رأينا في الآيات أعلاه أنّ الله تعالى يثيب الأشخاص الذين يجعلون أساس كلّ علاقة وودّ هو الحبّ المرتبط بالله، ومن هنا يحبّون أحبّاء الله ويعادون أعداءه، وهذا الجزاء العظيم يكون على خمسة أنواع، ثلاثة في الدنيا، وإثنان في يوم القيامة. وأوّل هذه النعم في عالم الدنيا هو إستقرار وثبات إيمانهم، حيث يجعل الإيمان في قلوبهم بحيث لا تستطيع الحوادث والأعاصير أن تؤثّر عليه، ومضافاً إلى ذلك فإنّ الله تعالى يؤيّدهم ويقوّيهم بروحية متسامية، وفي المرحلة الثالثة يجعلهم في حزبه وينصرهم على أعدائه. كما يمنحهم في الآخرة جنّة خالدة مع جميع نعمها، وبالإضافة إلى ذلك فإنّه يعلن عن رضاه المطلق عنهم. وجاء في حديث للإمام الصادق (ع) بهذا الصدد: "ما من مؤمن إلاّ ولقلبه اُذنان في جوفه، اُذن ينفذ فيها الوساوس الخنّاس، واُذن ينفذ فيها الملك، فيؤيّد الله المؤمن بالملك فذلك قوله: (وأيّدهم بروح منه)"(13). وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (ع) في تفسيره لكلام الرّسول (ص) حيث قال: "إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان" قال (ع): "هذه روح الإيمان التي ذكرها الله في كتابه حيث يقول: (وأيّدهم بروح منه)"(14). ويتّضح من الأحاديث أعلاه سعة معنى "روح الإيمان" وشمولها للملك والمرتبة العالية للروح الإنسانية، وفي الضمن توضّح هذه الحقيقة وهي أنّ وجود هذه المرحلة من الإيمان للإنسان يمنعه من التلوّث بالمعاصي كالزنا وشرب الخمر وأمثالها، حيث تصبح لديه حصانة تمنعه من ذلك. آمين ياربّ العالمين نهاية سورة المجادلة ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ أي لا يجتمع الإيمان الخالص وموادة المحادين ولو كانوا أقارب ﴿أُوْلَئِكَ﴾ أي الذين لم يوادوهم ﴿كَتَبَ﴾ ثبت ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ بألطافه ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ من الله وهو نور الإيمان أو القرآن أو النصر ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ بطاعته ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ بثوابه ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ جنده وأنصار دينه ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الظاهرون بالبغية.