لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وبعد بيان المقدّمة أعلاه نستعرض أبعاد قصّة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر). "حشر" في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك، والمقصود منه هنا إجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود، أو إجتماع اليهود لمحاربة المسلمين، ولأنّ هذا أوّل إجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر، وهذه بحدّ ذاتها إشارة لطيفة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم. والعجيب أنّ جمعاً من المفسّرين ذكروا إحتمالات للآية لا تتناسب أبداً مع محتواها، ومن جملتها أنّ المقصود بالحشر الأوّل ما يقع مقابل حشر يوم القيامة، وهو القيام من القبور إلى الحشر، والأعجب من ذلك أنّ البعض أخذ هذه الآية دليلا على أنّ حشر يوم القيامة يقع في أرض الشام التي اُبعد اليهود إليها، وهذه الإحتمالات الضعيفة ربّما كان منشؤها من وجود كلمة "الحشر"، في حين أنّ هذه الكلمة لم تكن تستعمل هذا بمعنى الحشر في القيامة، بل تطلق على كلّ إجتماع وخروج إلى ميدان ما، قال تعالى: (وحشر لسليمان جنود من الجنّ والإنس والطير)(2). وكذلك ما ورد في الإجتماع العظيم لمشاهدة المحاججة التي خاضها موسى(ع) مع سحرة فرعون حيث يقول سبحانه: (وأن يحشر الناس ضحى)(3). ويضيف الباريء عزّوجلّ: (ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله) لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة، وقدرتهم الماديّة الظاهرية. إنّ التعبير الذي ورد في الآية يوضّح لنا أنّ يهود بني النضير كانوا يتمتّعون بإمكانات واسعة وتجهيزات وعدد كثيرة في المدينة، بحيث أنّهم لم يصدّقوا أنّهم سيغلبون بهذه السهولة، وذلك ظنّ الآخرين أيضاً. ولأنّ الله سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب، هو دليل على قدرته سبحانه، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله. ولذلك يضيف - إستمراراً للبحث الذي ورد في الآية - قوله تعالى: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) نعم، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين، وقد خيّم على قلوبهم، وسلب منهم قدرة الحركة والمقاومة، لقد جهّزوا وهيّأوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى، حيث يرسل لهم جيشاً من داخلهم ويجعلهم في مأزق حرج إلى حدّ ينهمكون فيه على تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم من المسلمين. صحيح أنّ مقتل زعيمهم "كعب بن الأشرف" - قبل الهجوم على قلاعهم وحصونهم - كان سبباً في إرباكهم وإضطراب صفوفهم، إلاّ أنّ من الطبيعي أنّ مقصود الآية غير ما تصوّره بعض المفسّرين، فإنّ ما حدث كان نوعاً من الإمداد الإلهي للمسلمين الذين حصل لهم مرّات عديدة حين جهادهم ضدّ الكفّار والمشركين. والطريف هنا أنّ المسلمين كانوا يخرّبون الحصون من الخارج ليدخلوا إلى عمق قلاعهم، واليهود كانوا يخرّبونها من الداخل حتّى لا يقع شيء مفيد منها بأيدي المسلمين، ونتيجة لهذا فقد عمّ الخراب التامّ جميع قلاعهم وحصونهم. وذكرت لهذه الآية تفاسير اُخرى أيضاً منها: أنّ اليهود كانوا يخربونها من الداخل لينهزموا، أمّا المسلمون فتخريبهم لها من الخارج ليظفروا باليهود ويجهّزوا عليهم (إلاّ أنّ هذا الإحتمال مستبعد). أو يقال إنّ لهذه الآية معنىً كنائي، وذلك كقولنا: إنّ الشخص الفلاني هدم بيته وحياته بيده، يعني أنّه بسبب جهله وتعنّته دمّر حياته. أو أنّ المقصود من تخريب اليهود لبعض البيوت، هو من أجل إغلاق الأزقّة الموجودة داخل القلاع ومنع المسلمين من التقدّم ولكي لا يستطيعوا السكن فيها. أو أنّهم هدموا قسماً من البيوت داخل القلعة حتّى إذا ما تحوّلت الحرب إلى داخلها يكون هنالك مكان كاف للمناورة والحرب. أو أنّ مواد بناء بعض البيوت كان ثميناً فخرّبوها لكي يحملوا ما هو مناسب منها، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب من الجميع. وفي نهاية الآية - بعنوان إستنتاج كلّي - يقول تعالى: (فاعتبروا يا اُولي الأبصار). "اعتبروا" من مادّة (إعتبار) وفي الأصل مأخوذة من العبور، أي العبور من شيء إلى شيء آخر، ويقال لدمع العين "عبرة" بسبب عبور قطرات الدموع من العين، وكذلك يقال (عبارة) لهذا السبب، حيث أنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر، وإطلاق "تعبير المنام" على تفسير محتواه، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه. وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات (عبر) لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكلية وتنقله من موضوع إلى آخر. والتعبير بـ "اُولي الأبصار" إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين واقعية ويتوغلون إلى أعماقها. كلمة (بصر) تقال دائماً للعين الباصرة، و "البصيرة" تقال للإدراك والوعي الداخلي(4). وفي الحقيقة أنّ "اُولي الأبصار" هم أشخاص لهم القابلية على الإستفادة من (العبر)، لذلك فإنّ القرآن الكريم يلفت نظرتهم للإستفادة من هذه الحادثة والإتّعاظ بها. وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود من الإعتبار هو مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل، كمقارنة حال الكفّار مع حال ناقضي العهد من يهود بني النضير، إلاّ أنّ هذه الجملة لا ترتبط أبداً بـ "القياسات الظنّية" التي يستفيد منها البعض في إستنباط الأحكام الدينيّة. والعجيب هنا أنّ بعض فقهاء أهل السنّة إستفادوا من الآية أعلاه لإثبات هذا المقصود، بالرغم من أنّ البعض الآخر لم يرتضوا ذلك. والخلاصة أنّ المقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الإنتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر، وليس العمل على أساس التصوّر والخيال. وعلى كلّ حال فإنّ مصير طائفة "بني النضير" بتلك القدرة والعظمة والشوكة، وبتلك الصورة من الإستحكامات القويّة، صار موضع (عبرة) حيث أنّهم إستسلموا لجماعة من المسلمين لا تقارن قوّاتها بقوّاتهم، وبدون مواجهة مسلّحة، بحيث كانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم وتركوا بقيّة أموالهم للمسلمين المحتاجين، وتفرّقوا في بقاع عديدة من العالم، في حين أنّ اليهود سكنوا في المدينة من أجل أن يدركوا النبي الموعود الذي ورد في كتبهم، ويكونوا في الصفّ الأوّل من أعوانه كما ذكر المؤرّخون ذلك. وبهذا الصدد نقرأ حديثاً ورد عن الإمام الصادق حيث يقول: "كان أكثر عبادة أبي ذرّ رحمه الله التفكّر والإعتبار"(5). ومع الأسف فإنّ كثير من الناس يفضّلون تجربة الشدائد والمحن والمصائب بأنفسهم ويذوقوا مرارة الخسائر شخصيّاً، ولا يعتبرون ولا يتّعظون بوضع الآخرين وما يواجهونه في أمثال هذه الموارد، ويقول الإمام علي (ع) "السعيد من وعظ بغيره"(6). ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ هم النضير ﴿مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ في أول حشرهم أي إخراجهم من جزيرة العرب إذ هو أول ذل أصابهم أو حشرهم إلى الشام ﴿مَا ظَنَنتُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَن يَخْرُجُوا﴾ لمنعتهم ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ﴾ من بأسه ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾ أي أمره أو عذابه من الرعب والجلاء ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ لم يخطر ببالهم ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ الخوف بقتل كعب ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ﴾ حسدا أن يسكنها المسلمون ﴿وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنهم عرضوهم له بنكثهم ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ بعذرهم ووثوقهم بغير الله فلا تماثلوهم.