سبب النّزول:
بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدّث عن إندحار يهود بني النضير، لذا فإنّ سبب نزولها هو إستمرار لنفس أسباب نزول الآيات السابقة.
والتوضيح كما يلي:
بعد خروج يهود بني النضير من المدينة بقيت بساتينهم وأراضيهم وبيوتهم وقسم من أموالهم في المدينة، فأشار بعض شيوخ المسلمين على رسول الله (ص)تماشياً مع سنّة جاهلية - حيث قالوا له خذ الصفوة من أموالهم وربع ممتلكاتهم، واترك لنا المتبّقي كي نقسّمه بيننا، فنزلت الآيات أعلاه حيث أعلنت صراحة أنّ هذه الغنائم التي لم تكن بسبب قتال، ولم تكن نتيجة حرب، فإنّها جميعاً من مختصات الرّسول (ص) بإعتباره رئيساً للدولة الإسلامية، ويتصرّف بها كما يشاء، وفقاً لما يقدره من المصلحة في ذلك.
وسنلاحظ أنّ الرّسول (ص) قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة(1).
التّفسير:
حكم الغنائم بغير الحرب:
إنّ هذه الآيات - كما ذكر سابقاً - تبيّن حكم غنائم بني النضير، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكماً عاماً حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفيء).
يقول الله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما اُوجفتم عليه من خيل ولا ركاب)(2).
"أفاء" من مادّة (فيء) على وزن شيء - وهي في الأصل بمعنى الرجوع، وإطلاق كلمة (فيء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه بإعتبار أنّ الله سبحانه قد خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين، وعلى رأسهم الرّسول الأعظم (ص) الذي هو أشرف الكائنات، وبناءً على هذا فإنّ الجاحدين لوجود الله والعاصين له بالرغم من إمتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية، إلاّ أنّهم يعتبرون غاصبين لها، ولذلك فإنّ عودة هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئاً) في الحقيقة.
"أوجفتم" من مادّة (إيجاف) بمعنى السَّوق السريع الذي يحدث غالباً في الحروب.
"خيل" بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول)(3).
"ركاب" من مادّة (ركوب) وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.
والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً.
ثمّ يضيف سبحانه أنّ الإنتصارات لا تكون غالباً لكم (ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كلّ شيء قدير).
نعم، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي، ولتعلموا أنّ الله قادر على كلّ شيء، ويستطيع سبحانه بلحظة واحدة أن يذلّ الأقوياء، ويسلّط عليهم فئة قليلة توجّه لهم ضربات موجعة وتسلب جميع إمكاناتهم.
ولابدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية، ويلاحظوا علائم حقّانية النبي (ص)، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكّل على الذات الإلهية المقدّسة في جميع ممارساتهم.
وهنا قد يتبادر سؤال وهو: إنّ الحصول على غنائم بني النضير لم يتمّ بدون حرب، بل إنّ المسلمين زحفوا بجيشهم نحو قلاعهم وحاصروها، وقيل أنّ إشتباكاً مسلّحاً قد حصل في حدود ضيّقة بين الطرفين.
وفي مقام الجواب نقول: بأنّ قلاع بني النضير - كما ذكروا - لم تكن بعيدة عن المدينة، وذكر بعض المفسّرين أنّ المسافة بين المدينة والقلاع ميلان وأنّ المسلمين ذهبوا إليها سيراً على أقدامهم، وبناءً على هذا فلم يواجهوا مشقّة حقيقية.
أمّا بالنسبة لموضوع الإشتباك المسلّح فإنّه لم يثبت من الناحية التأريخية، كما أنّ الحصار لم يستمرّ طويلا، وبناءً على هذا فإنّنا نستطيع القول بأنّه لم يحدث شيء يمكن أن نسمّيه قتالا، ولم يرق دم على الأرض.
﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ ما رد عليه من النضير أو الكفار فإن الأرض وما فيها له (صلى الله عليه وآله وسلّم) فما تغلبوا عليه ثم أخذه منهم فقد فاء إليه أي رجع ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ﴾ من الإيجاف وهو سرعة السير ﴿عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ بل ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فأنتم لا تستحقون فيه شيئا.