لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي مرحلة ثالثة يصفهم سبحانه بالصدق، ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع، إلاّ أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الاُمور: بالإيمان، وفي محبّة الرّسول، وفي التزامهم بمبدأ الحقّ... ومن الواضح أنّ هذه الصفات كانت لأصحاب الرّسول في زمن نزول هذه الآيات، إلاّ أنّنا نعلم أنّ أشخاصاً من بينهم قد فرّطوا بالنعم الإلهية التي غمرتهم، وسلكوا سبيل الضلال كالذين أشعلوا نار حرب الجمل في البصرة، وصفين في الشام، وحاربوا خليفة رسول الله (ص) الذي كان واجب الطاعة بإجماع المسلمين، وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين... وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضاً وصف رائع ومعبّر جدّاً عن طائفة الأنصار، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين، فيقول سبحانه: (والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم). "تبؤوا" من مادّة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة اُخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما)، هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أنّ طائفة الأنصار - أهل المدينة - قد هيّؤوا الأرضية المناسبة للهجرة، وكما يخبرنا التاريخ فإنّ الأنصار قدموا مرّتين إلى "العقبة" - وهي مضيق قرب مكّة - وبايعوا رسول الله متنكّرين، ورجعوا إلى المدينة مبلّغين، ومعهم "مصعب بن عمير" ليعلّمهم اُمور دينهم وليهيء الأرضية المناسبة لهجرة الرّسول (ص). وبناءً على هذا فإنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لإستقبال المهاجرين فحسب، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب. والتعبير (من قبلهم) يوضّح لنا أنّ كلّ تلك الاُمور كانت قبل هجرة مسلمي مكّة، وهذا أمر مهمّ. وإنسجاماً مع هذا التّفسير، فإنّ أنصار المدينة كانوا مستحقّين لهذه الأموال، وهذا لا يتنافى مع ما نقل عن رسول الله (ص) أنّه أعطى شخصين أو ثلاثة أشخاص من الأنصار - فقط - من أموال بني النضير، إذ من الممكن أن لا يكون بين الأنصار أشخاص فقراء ومساكين غير هؤلاء، بعكس المهاجرين فإنّهم إن لم يكونوا مصداقاً للفقير، فيمكن إعتبارهم مصداقاً لأبناء السبيل(2). ثمّ يتطرّق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اُخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامّة، حيث يقول تعالى: (يحبّون من هاجر إليهم). فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم. والأمر الآخر: (ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أتوا) فهم لا يطمعون بالغنائم التي اُعطيت للمهاجرين، ولا يحسدونهم عليها، ولا حتّى يحسّون بحاجة إلى ما اُعطي للمهاجرين منها، وأساساً فإنّ هذه الاُمور لا تخطر على بالهم. وهذه الصورة تعكس لنا منتهى السمو الروحي للأنصار. ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(3). ومن هذه السمات الثلاث: "المحبّة" و "عدم الطمع" و "الإيثار"، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميّزة. ونقل المفسّرون قصصاً متعدّدة في شأن نزول هذه الآية: يقول ابن عبّاس: إنّ الرّسول بيّن للأنصار يوم الإنتصار على يهود بني النضير، إذا كنتم ترومون المشاركة في حصّة المهاجرين من الغنائم فشاطروهم بتقسيم أموالكم وبيوتكم، وإذا أردتم أن تبقى بيوتكم وأموالكم لكم فلا شيء لكم من هذه الغنائم؟ فقال الأنصار: علام نتقاسم بيوتنا وأموالنا معهم، نقدّم المهاجرين علينا ولا نطمع بشيء من الغنائم؟ فنزلت هذه الآية تعظّم هذه الروح العالية(4). ونقرأ في حديث آخر أنّ شخصاً أتى رسول الله (ص) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله (ص) إلى منزله، فقالت زوجته: ما عندنا إلاّ الماء، فقال رسول الله: من لهذا الرجل الليلة، فتعهّده رجل من الأنصار وصحبه إلى بيته، ولم يكن لديه إلاّ القليل من الطعام لأطفاله. وطلب أن يؤتى بالطعام إلى ضيفه وأطفأ السراج، ثمّ قال لزوجته: نوّمي الصبية، ثمّ جلس الرجل وزوجته على سماط الطعام فتظاهروا بالأكل ولم يضعوا شيئاً في أفواههم، وظنّ الضيف أنّهم يأكلون معه، فأكل حتّى شبع وناموا الليلة، فلمّا أصبحوا قدموا على رسول الله (ص) فنظر إليهم وتبسّم (دون أن يتكلّم)، فنزلت الآية أعلاه وأثنت على إيثارهم. ونقرأ في الروايات التي وصلتنا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المضيف هو الإمام علي (ع) وأطفاله الحسن والحسين (عليهم السلام)، والمرأة التي نوّمت الصبية جياعاً هي فاطمة الزهراء (ع)(5). ويجدر الإنتباه هنا إلى أنّ القصّة الاُولى يمكن أن تكون سبباً لنزول الآية، والقصّة الثانية من مصاديق تطبيق هذه الآية الكريمة. وبناءً على هذا فإنّ نزول الآيات حول الأنصار لا يتنافى مع كون المضيف هو الإمام علي (ع). وذكر البعض - أيضاً - أنّ هذه الآية نزلت في مقاتلي غزوة اُحد، حيث أنّ سبعة أشخاص منهم جرحوا في المعركة وقد أنهكهم العطش، فجيء بماء يكفي لأحدهم، فأبى أن يشرب وأومأ إلى صاحبه، وكان الساقي كلّما ذهب إلى أحدهم يشير إلى الآخر ويؤثره على نفسه مع شدّة عطشه، إلى أن وصل إلى الأخير فوجده قد فارق الحياة ثمّ رجع إلى الأوّل فوجده قد فارق الحياة أيضاً، وحتّى انتهى إليهم جميعاً وهم موتى فأثنى الله تعالى على إيثارهم هذا(6). ولكن من الواضح أنّ هذه الآية نزلت في بني النضير، وبسبب عمومية مفهومها فإنّها قابلة للتطبيق في موارد متشابهة. وفي نهاية الآية - ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق - يضيف سبحانه: (ومن يوق شحّ نفسه فاُولئك هم المفلحون). "الشحّ" كما يقول الراغب في المفردات: البخل مقترناً بالحرص عادةً. "يوق" من مادّة وقاية، وبالرغم من أنّه بصيغة فعل مجهول، إلاّ أنّه من الواضح أنّ الفاعل هو الله سبحانه، ويعني أنّ كلّ شخص حفظه الله سبحانه من هذه الصفة الذميمة فإنّه سيفلح. ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال لأحد أصحابه: أتدري ما الشحّ؟ فأجاب: هو البخيل، قال (ع): "الشحّ أشدّ من البخل، إنّ البخيل يبخل ممّا في يده، والشحيح يشحّ بما في أيدي الناس، وعلى ما في يده، حتّى لا يرى في أيدي الناس شيئاً إلاّ تمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله عزّوجلّ"(7). ونقرأ في حديث ثان: "لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخّان جهنّم في جوف رجل مسلم"(8). وبالجملة، فما يستفاد بوضوح من الآية أعلاه أنّ ترك المرء للشحّ يوصله إلى الفلاح، ومن يتّصف بهذه الصفة المذمومة فإنّه يهدم بناء سعادته. ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ﴾ المدينة ﴿وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ قبل قدوم المهاجرين ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ فيواسونهم بأنفسهم ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾ ما يكون منها كحسد وغيظ ﴿مِّمَّا أُوتُوا﴾ مما أعطي المهاجرون من الغنى وغيره ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ حاجة إليه ﴿وَمَن يُوقَ﴾ يمنع عنه ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾ حرصها على المال ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ عاجلا وآجلا.