لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين، الذين عرفوا بيننا بإصطلاح القرآن الكريم بـ (التابعين)، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة. يقول تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم). بالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد حدّد مفهوم هذه الآية بمجموعة من الأشخاص الذين التحقوا بالمسلمين بعد إنتصار الإسلام وفتح مكّة، إلاّ أنّه لا يوجد دليل على هذه المحدوديّة الخاصّة بل تشمل جميع المسلمين إلى يوم القيامة، وعلى فرض أنّ هذه الآية ناضرة إلى فئة خاصّة، إلاّ أنّها عامّة من حيث الملاك والمعيار والنتيجة. وبهذا فإنّ الآيات الثلاثة المتقدّمة تشمل جميع مسلمي العالم، الذين ينضوون إلى واحدة من هذه الطوائف الثلاثة، وهم: (المهاجرون والأنصار والتابعون). جملة (والذين جاؤوا... ) حسب الظاهر عطف على (للفقراء المهاجرين)وذلك لبيان هذه الحقيقة، وهي أنّ أموال "الفيء" لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور. ويحتمل أيضاً أنّ الجملة مستقلّة (بأن تكون جملة (والذين جاؤوا... ) مبتدأ (ويقولون) خبر) إلاّ أنّ التّفسير الأوّل - بالنظر إلى إنسجامه مع الآيات السابقة - هو الأنسب. والملاحظ هنا هو أنّ الآية تذكر ثلاث صفات للتابعين: الاُولى: أنّهم يفكّرون في إصلاح أنفسهم، وطلب العفو والمغفرة والتوبة من الله تعالى. والثّانية: النظرة المقترنة بالإكبار والإجلال والإحترام إلى من سبقهم بالإيمان، ويطلبون لهم أيضاً العفو والمغفرة من الله تعالى. الثّالثة: أنّهم يسعون بكلّ وسيلة إلى تهذيب أنفسهم وتطهيرها من الحقد والحسد والبغض والعداء، ويطلبون العون من الله الرؤوف الرحيم لمساعدتهم في هذا الطريق. وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي: (تربية النفس) و (الإحترام للسابقين في الإيمان) و (الإبتعاد عن الحسد والبغضاء). "غِلّ" على وزن (سِلّ)، جاءت في الأصل بمعنى نفوذ الشيء بخفية، ولذا يقال للماء الجاري بين الأشجار (غلَل) ولأنّ الحسد والعداوة والبغضاء تنفذ في قلب الإنسان بصورة خفيّة، يقال لها: "غِلْ". وبناءً على هذا فإنّ (الغِلّ) ليس فقط بمعنى الحسد، ولكنّه مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الخفيّة والقبيحة أخلاقياً. والتعبير بـ (إخوان) والإستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاُخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع. فكلّ شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب، بل للآخرين أيضاً، ولتشمل المجتمع بصورة عامّة، وبذلك تطهّر القلوب من كلّ أنواع العداء والبغضاء والحسد والحرص، وهذا هو المجتمع الإسلامي النموذجي. بحث الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ: يصرّ بعض المفسّرين - بدون الإلتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكلّ من المهاجرين والأنصار والتابعين - على إعتبار جميع الصحابة بدون إستثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم، وكلّ خلاف صدر منهم أحياناً سواء في زمن الرّسول (ص) أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه، وبهذا اعتبروا كلّ مهاجر وأنصاري وتابع شخصاً محترماً ومقدّساً بصورة عامّة، دون الإلتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية. إلاّ أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين. ففي "المهاجرين": الإخلاص والجهاد والصدق. وفي "الأنصار": المحبّة للمهاجرين والإيثار، والإبتعاد عن كلّ حرص وبخل. وفي "التابعين": بناء أنفسهم، والإحترام للسابقين في الإيمان، والإبتعاد عن كلّ بغض وحسد. ومع كلّ هذا، كيف يمكن أن نحترم الأشخاص الذين قاتلوا الإمام علي (ع)في معركة الجمل وشهروا سيفهم عليه، ولم يراعوا اُخوته في الله، ولم يطهّروا قلوبهم من البغض والحسد تجاهه، ولا احترموا أسبقيته في الإيمان، وبعد كلّ ذلك لا يجوز لنا إنتقادهم، بل يجب علينا التسليم وبدون نقاش لأحاديث هذا وذاك دون تمحيص وتثبّت. وبناءً على هذا فإنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم، سواء على عهد رسول الله(ص) أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التأريخ الإسلامي، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد، ونقطعها أو نحدّدها - بما يناسب - مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل. ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ بعد المهاجرين والأنصار وهم التابعون أو المؤمنون إلى يوم القيامة ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا﴾ في الإيمان ﴿الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا﴾ حقدا ﴿لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.