لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير: لو نزل القرآن على جبل: تكملة للآيات السابقة التي كانت تهدف إلى تحريك النفوس والقلوب الإنسانية، وخاصّة عن طريق التذكير بالنهاية التي يكون عليها الإنسان، والمصير الذي ينتظره، والذي يجدر أن يهيّئه في أبهى وأفضل صورة... تأتي هذه الآيات المباركات التي هي آخر آيات سورة الحشر، والتي تأخذ بنظر الإعتبار مجمل ما ورد من آيات هذه السورة، لتوضّح حقيقة اُخرى حول القرآن الكريم، وهي: أنّ هذا الكتاب المبارك له تأثير عميق جدّاً حتّى على الجمادات، حيث أنّه لو نزل على الجبال لهزّها وحرّكها وجعلها في وضع من الإضطراب المقترن بالخشوع... إلاّ أنّه - مع الأسف - هذا الإنسان القاسي القلب يسمع آيات الله تتلى عليه ولا تتحرّك روحه ولا يخشع قلبه، يقول سبحانه: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكّرون). فسّر الكثير من المفسّرين هذه الآيات بأنّها تشبيه، وقالوا: إنّ الهدف من ذلك هو بيان أنّ هذه الآيات إذا نزلت على الجبال بكلّ صلابتها وقوّتها إذا كان لها عقل وشعور - بدلا من نزولها على قلب الإنسان - فانّها تهتزّ وتضطرب إلى درجة أنّها تتشقّق، إلاّ أنّ قسماً من الناس ذوي القلوب القاسية والتي هي كالحجارة أو أشدّ قسوة لا يسمعون ولا يعون ولا يتأثّرون أدنى تأثير، وجملة: (وتلك الأمثال نضربها للناس) إعتبرت دليلا وشاهداً على هذا الفهم. وقد حملها البعض الآخر على ظاهرها وقالوا: إنّ كلّ الموجودات في هذا العالم - ومن جملتها الجبال - لها نوع من الإدراك والشعور الخاصّ بها، وإذا نزلت هذه الآيات عليها فانّها ستتلاشى، ودليل هذا ما ورد في الآية (74) من سورة البقرة في وصف جماعة من اليهود، قال تعالى: (ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، وانّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وإنّ منها لما يشقّق فيخرج منه الماء وانّ منها لما يهبط من خشية الله). والتعبير بـ (مثل) يمكن أن يكون بمعنى هذا الوصف، كما جاءت هذه الكلمة مراراً مجسّدة لنفس المعنى، وبناءً على هذا، فإنّ التعبير المذكور لا يتنافى مع هذا التّفسير. والشيء الممكن ملاحظته هنا، أنّه تعالى يقول في البداية: إنّ الجبال تخشع وتخضع للقرآن الكريم، ويضيف أنّها تتشقّق، إشارة إلى أنّ القرآن الكريم ينفذ تدريجيّاً فيها، وبعد كلّ فترة تظهر عليها آثار جديدة من تأثيرات القرآن الكريم، إلى حدّ تفقد فيه قدرتها وإستطاعتها فتكون كالعاشق الواله الذي لا قرار له ثمّ تنصدع وتنشقّ(1). الآيات اللاحقة تستعرض قسماً مهمّاً من صفات جمال وجلال الله سبحانه، التي لكلّ واحدة منها الأثر العميق في تربية النفوس وتهذيب القلوب. وتحوي الآيات القرآنية الثلاثة خمسة عشر وصفاً لله سبحانه، أو بتعبير آخر فإنّ ثماني عشرة صفة من صفاته العظيمة تذكرها ثلاث آيات، وكلّ منها تتعلّق ببيان التوحيد الإلهي والإسم المقدّس، وتوضّح للإنسان طريق الهداية إلى العالم النوراني لأسماء وصفات الحقّ سبحانه، يقول تعالى: (هو الله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم). هنا وقبل كلّ شيء يؤكّد على مسألة التوحيد، التي هي أصل لجميع صفات الجمال والجلال، وهي الأصل والأساس في المعرفة الإلهية، ثمّ يذكر علمه بالنسبة للغيب والشهود. "الشهادة" و "الشهود" - كما يقول الراغب في المفردات - هي الحضور مقترناً بالمشاهدة سواء بالعين الظاهرة أو بعين البصيرة، وبناءً على هذا، فكلّ مكان تكون للإنسان فيه إحاطة حسيّة وعلمية يطلق عليها عالم شهود، وكلّ ما هو خارج عن هذه الحدود يطلق عليه "عالم الغيب" وكلّ ذلك في مقابل علم الله سواء، لأنّ وجوده اللامتناهي في كلّ مكان حاضر وناظر، فلا مكان - إذن - خارج حدود علمه وحضوره، قال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو)(2). والتوجّه بهذا الفهم نحو الذات الإلهية يؤدّي بالإنسان إلى الإيمان بأنّ الله حاضر وناظر في كلّ مكان، وعندئذ يتسلّح بالتقوى، ثمّ يعتمد على رحمته العامّة التي تشمل جميع الخلائق: (الرحمن) ورحمته الخاصّة التي تخصّ المؤمنين، (والرحيم) لتعطي للإنسان أملا، ولتعينه في طريق بناء نفسه والتكامل بأخلاقه وسلوكه بالسير نحو الله، لأنّ هذه المرحلة - الحياة الدنيا - لا يمكن للإنسان أن يجتازها بغير لطفه، لأنّها ظلمات وخطر وضياع. وبهذا العرض - بالإضافة إلى صفة التوحيد - فقد بيّنت الآية الكريمة ثلاثة من صفاته العظيمة، التي كلّ منها تلهمنا نوعاً من المعرفة والخشية لله سبحانه. ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا﴾ متشققا ﴿مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ تمثيل وتخييل أريد به توبيخ الإنسان على خشوعه لتلاوة القرآن بدليل ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ أي هذا وغيره ﴿نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيتعظون ولا بعد في حمله على الحقيقة.