ثمّ يستعرض القرآن الكريم نقطة اُخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحقّ ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادىء السماء والأنوار الإلهيّة العظيمة، حيث يقول سبحانه: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون).
وهنا تشبيه رائع لعمل هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون عبثاً إطفاء نور الشمس التي تضيء العالم كلّه بنفخة، إنّهم كالخفافيش التي تتصوّر أنّها قادرة على تحدّي وهج الشمس وأشعّتها الساطعة بالنوم نهاراً بعيداً عن نورها، والظهور في ظلمة الليل وعتمته.
وتأريخ الإسلام صورة ناطقة لهذا التنبّؤ القرآني العظيم، فرغم ضخامة المؤامرات التي حيكت ضدّه والجهود الجبّارة المقترنة بالإمكانات الهائلة من الأعداء لطمس معالم هذا الذين والقضاء عليه منذ اليوم الأوّل لظهوره إلى يومنا هذا ... فإنّ جميعها كانت خائبة وخاسئة وذهبت أدراج الرياح... وقد عمد هؤلاء إلى أساليب عدّة في حربهم القذرة ضدّ الإسلام:
فتارةً اتّبعوا اُسلوب الأذى والسخرية.
واُخرى عن طريق الحصار الإقتصادي والإجتماعي... وثالثة فرض الحروب، كـ (أُحد والأحزاب وحنين) وتجهيز الجيوش القوية لذلك.
ورابعة عن طريق التآمر الداخلي، كما كان عمل المنافقين.
وأحياناً عن طريق إيجاد الإختلافات في داخل الصفّ الإسلامي.
وأحياناً اُخرى الحروب الصليبية.
وتارةً إحتلال الأراضي كما في القدس المقدّسة قبلة المسلمين الاُولى.
وأحياناً إعتماد اُسلوب تجزئة الوطن الإسلامي الواحد إلى أجزاء عديدة تربو على الأربعين جزءاً.
وتارةً التأثير على شباب هذه الاُمّة وإضعاف متبنّياتها المبدئية والسلوكية بعيداً عن الإلتزام بخطّها العقيدي الأصيل والأخلاقية القرآنية.
وتارةً تشجيع الرذيلة والفساد الأخلاقي بين صفوف المجتمع وإشاعة وسائل الميوعة والإنحراف خاصّة بين الشباب.
وتارةً السيطرة الإستعمارة عسكرياً وسياسياً وإقتصادياً.
إلى غير ذلك من الأساليب والوسائل الماكرة.
إلاّ أنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّد (ص)، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيداً بالرسالة الإلهية... بل إنّ النور الإلهي في حالة إنتشار وإتّساع يوماً بعد يوم، كما تكشف ذلك لنا الإحصائيات، حيث أنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمرّ رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (المادّيين الشرقيين).
نعم، إنّهم يبذلون أقصى جهدهم باستمرار ليطفئوا نور الله ولكن لإرادة الله شأناً غير ذلك.
وهذا الأمر بحدّ ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم.
والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ هذا المضمون قد ورد مرّتين في القرآن الكريم، ولكن مع قليل من الإختلاف، حيث جاء في الآية (32) من سورة التوبة كالتالي: (يريدون أن يطفئوا) وهنا جاء بعبارة: (يريدون ليطفئوا).
يقول: الراغب في (المفردات) في توضيحه لهذا الإختلاف: إنّ الآية الاُولى إشارة إلى الإطفاء بدون مقدّمة، إلاّ أنّه في الآية الثانية إشارة إلى الإطفاء باستعمال المقدّمات التي تهيء الأرضية المناسبة لمثل هذا الأمر.
وعلى كلّ حال فإنّ مفهوم الآيتين يبيّن عدم إمكانية تحقيق هذا الأمر من قبل أعداء الإسلام، سواء هيّأوا الأرضية المناسبة لإطفاء النور الإلهي أو لم يهيّئوا.
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ﴾ برهانه أو دينه أو القرآن ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ بطعنهم فيه ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ﴾ مظهر ﴿نُورِهِ﴾ بإعلائه وتأييده ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ إتمامه.