سبب النّزول:
نقل في سبب نزول هذه الآيات وخصوصاً الآية (وإذا رأوا تجارة) روايات مختلفة جميعها تخبر عن معنى واحد، هو أنّه في أحد السنوات "أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم "دحيّة بن خليفة" بتجارة زيت من الشام والنبي يخطب يوم الجمعة فلمّا رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي إلاّ رهط فنزلت الآية فقال: "والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً".
وقال المقاتلان: بينا رسول الله يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحيّة بن خليفة بن فروة الكلبي ثمّ أخذ بني الخزرج ثمّ أخذ بني زيد بن مناة من الشام بتجارة وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلاّ أتته وكان يقدم إذا قدم بكلّ ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره فينزل عند "أحجار الزيت"، وهو مكان في سوق المدينة ثمّ يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلاّ إثنا عشر رجلا وامرأة فقال (ص): لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء وأنزل الله هذه الآية(32).
التّفسير:
أكبر تجمّع عبادي سياسي اسبوعي:
كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوّة والمعاد، وكذلك ذمّ اليهود عبيد الدنيا، بينما انصبّ الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز الإسلامية المهمّة التي تؤثّر كثيراً على استقرار أساس الإيمان، وتمثّل الهدف الأساس للسورة، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلّقة بها.
ففي البداية يخاطب الله تعالى المسلمين جميعاً بقوله: (ياأيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
"نودي" من مادّة (نداء) وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان.
وجاء في الآية (58) من سورة المائدة (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون).
فعندما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاماً على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهمّ ذكر لله.
وعبارة (ذلكم خير لكم...) إشارة إلى أنّ إقامة صلاة الجمعة وترك المكاسب والعمل في هذا الوقت، خير وأنفع للمسلمين من حطام الدنيا وملاذها الزائلة لو كانوا يعقلون.
وإلاّ فإنّ الله غني عن الجميع.
هذه نظرة عابرة إلى فلسفة صلاة الجمعة وما فيها من فضائل سنبحثها تباعاً.
من الواضح أنّ لأمر ترك البيع والشراء مفهوماً واسعاً يشمل كلّ عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.
أمّا لماذا سمّي يوم الجمعة بهذا الإسم؟ فهو لإجتماع الناس في هذا اليوم للصلاة، وهذه المسألة لها تاريخ سنبحثه في النقاط القادمة.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض الروايات جاءت حول الصلاة اليومية "إذا اُقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة"(33).
وقد عبّرت الآية السابقة فيما يتعلّق بصلاة الجمعة بقولها (فاسعوا) لتعطي أهميّة بالغة لصلاة الجمعة.
المقصود من (ذكر الله) بالدرجة الاُولى هو الصلاة، ولكنّنا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة مشتملة هي الاُخرى ومتضمّنة (لذكرالله) وهي في الحقيقة جزء من صلاة الجمعة.
وبناءً على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضاً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لم يقل قل كما في اليهود تشريفا للمؤمنين بخطابه ﴿إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ﴾ أذن لها ﴿مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ امضوا إلى صلاة الجمعة أو خطبتها مسرعين ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ ظاهر في تحريمه وفي انعقاده قولان وفيه مبالغة في إيجابها ويؤكده ﴿ذَلِكُمْ﴾ أي السعي الباقي أجره ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من الفاني نفعه ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.