لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير: مصدر النفاق وعلامات المنافقين: نذكر مقدّمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات، وهي أنّ الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرّسول (ص) وأصحابه إلى المدينة، وبداية استحكام اُسس الإسلام وظهور عزّه. فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكّة، لأنّ الأعداء كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كلّ شيء بدون حذر. ولا حاجة إلى التخفّي أو اللجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام. لكن عندما استحكم الإسلام واتّسع في المدينة، وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذّر ذلك عليهم في بعض الأحيان، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم. وهكذا تكون غالباً طبيعة أعداء كلّ ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوّة ساعدها، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم أصدقاء. ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كلّ تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم، في المدينة ولم تنزل في مكّة. وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة - أي مسألة النفاق - غير محصورة بعصر الرّسول، بل إنّ جميع المجتمعات - وخاصّة الثورية منها - تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية، لا من خلال إعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع. وبهذا يمكن إستلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر. كذلك لابدّ من معرفة صفاتهم التي ذكرها القرآن بشكل تفصيلي، ليتمّ التعرّف عليهم من خلالها استكناه خطوطهم ومؤامراتهم. وممّا تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء، لخفائهم وعدم القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذاً يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اُخرى. ويأتي خطرهم ثالثاً من إرتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم. ولهذا نرى أنّ أكثر الضربات التي تلقّاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر - أي معسكر النفاق. ولهذا - أيضاً - نلاحظ أنّ الإسلام شنّ حملات شديدة جدّاً عليهم، ووجّه إليهم ضربات عنيفة لم يوجّهها إلى غيرهم. وبعد هذه المقدّمة نرجع إلى تفسير الآيات. إنّ أوّل صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي: إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكّل الظاهرة العامّة للنفاق، حيث يقول تعالى: (إذا جاءك المنافقون وقالوا نشهد إنّك لرسول الله)(50) ويضيف (والله يعلم أنّ المنافقين لكاذبون). وهذه أوّل علامة من علامات المنافقين، حيث إختلاف الظاهر مع الباطن، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماماً. وهذه الظاهرة تشكّل المحور الرئيسي للنفاق. وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ الصدق والكذب على نوعين: "صدق وكذب خبري" و "صدق وكذب مخبري"، يكون المعيار والمقياس في القسم الأوّل هو موافقته وعدم موافقته للواقع، بينما يكون المقياس في القسم الثاني هو موافقته وعدم موافقته للإعتقاد، فإذا جاء الإنسان بخبر مطابق للواقع ولكنّه غير مطابق لإعتقاده، فهذا من الكذب المخبري، وفي حالة مطابقته لعقيدته فهو صادق. وبناءً على هذا فإنّ شهادة المنافقين على رسالة الرّسول ليست من قبيل الكذب الخبري لأنّها مطابقة للواقع، ولكنّها من نوع الكذب المخبري إذ تخالف إعتقاد المنافقين. لذلك جاء التعبير القرآني: (والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون). بعبارة اُخرى: إنّ المنافقين لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول الله وإنّما أرادوا الإخبار عن إعتقادهم برسالته، وهذا من الكذب المحض. ومن الملاحظ أنّ المنافقين استخدموا كلّ الطرق لتأكيد شهادتهم، غير أنّ الله كذّبهم بشدّة وبنفس اللهجة التي أكّدوا فيها شهادتهم. وهذه إشارة إلى أنّ المنافقين يجب أن يواجهوا بنفس الشدّة التي يؤكّدون فيها على صدقهم. ونشير هنا إلى أنّ "المنافق" في الأصل من مادّة (نفق) على وزن "نفخ" بمعنى النفوذ والتسرّب و "نفق" "على وزن شفق" أي القنوات والتجاويف التي تحدث في الأرض، وتستغل للتخفّي والتهرّب والإستتار والفرار. وأشار بعض المفسّرين إلى أنّ بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر الصحراوي، تتّخذ لها غارين: الأوّل واضح تدخل وتخرج منه بصورة مستمرّة، والآخر غير واضح ومخفي تهرع إليه في ساعات الخطر ويسمّى "النفقاء"(51). والمنافق هو الذي إختار طريقاً مشبوهاً ومخفيّاً لينفذ من خلاله إلى المجتمع، ويهرب عند الخطر من طريق آخر. ﴿إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا﴾ نفاقا ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ على الحقيقة ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ في قولهم نشهد لأن الشهادة إخبار عن علم ولا يكون إلا عن مواطاة القلب واللسان وهؤلاء كانت قلوبهم مخالفة لألسنتهم.