لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يقل "الذين يشيعون الفاحشة، بل قال: (الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) وهذا يحكي عن الأهمية القصوى التي يدليها القرآن لذلك. وبعبارة أخرى: أنّه لا ينبغي توهم أن ذلك كان من أجل زوجة النبي(ص) أو شخص آخر بمنزلتها، بل من أجل كلّ مؤمن ومؤمنة، فلا خصوصية في ذلك، إنّما هي عامّة للجميع على الرغم من أن كل حالة لها خصائصها، وقد تزيد الواحدة على الأُخرى في الخصائص أو تنقص. كما يجب الإنتباه إلى أن إشاعة الفحشاء لا تنحصر في ترويج تُهمة كاذبة ضد مسلم مؤمن، يتهم بعمل مخل بالشرف، بل هذه مصداق من مصاديقها ولهذا التعبير مفهوم واسع يضم كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر. وقد وردت في القرآن المجيدِ كلمةُ "الفحشاء" غالباً للدلالة على العمل المخل بالعفّة والشرف. ولكن من الناحية اللغوية، فقد ذكر الراغب الإصفهاني مفهوماً واسعاً لها فقال: الفحش والفحشاء والفاحشة، ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. ويستعمل القرآن أحياناً هذا المفهوم الواسع، حيث يقول (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش).(2) وبهذا يتّضح المفهوم الواسع للآية: أمّا قول القرآن الكريم: (لهم عذاب عظيم في الدنيا) فقد يكون إشارة إلى الحدود والتعزيرات الشرعية. وردود الفعل الإجتماعية، وما يبتلى به الناس في هذه الدنيا من مظاهر مشؤومة بسبب أعمالهم القبيحة، إضافة إلى عدم تقبل أية شهادة منهم، وإدانتهم بالفسق والفجور وافتضاح أمرهم. كل ذلك من النتائج الدنيوية التي تترتب على أقوالهم وأعمالهم القبيحة. وأمّا عذابهم الأليم في الآخرة، فيكون في ابتعادهم عن رحمةِ الله، واستحقاقهم غضب الله وعذاب النار. وتختم الآية بالقول (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) أجل، وإن الله يعلم بالعاقبة المشؤومة التي تنتظر الذي يشيعون الفحشاء في الدنيا والآخرة، ولكنّكم لا تعلمون أبعاد هذه القضية. إنّه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب، ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة، أمّا أنتم فلا تعلمون ذلك ولا تدركونَهُ. أجل، يعلم الله كيف ينزل أحكامه ليحول دون ارتكاب هذه الأعمال القبيحة. وكررت الآية الأخيرةُ - ممّا نَحنُ بصددِه مِن الآيات التي تناولت حديث الافك ومكافحة إشاعة الفحشاء، وقَذْف المؤمنين المتطهرين - هذه الحقيقة لتؤكّد القول (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رؤوف رحيم).(3) بحوث 1 - مامعنى إشاعة الفحشاء؟ بما أن الإنسان مخلوق إجتماعي، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه لَهُ حُرْمة يجب أن لا تقِلَّ عَنْ حرْمتِهِ الشخصيَّةِ، وطهارةُ كِلَّ مِنْهُما تُساعِدُ في طهارةِ الآخر، وقبح كلِّ منهما يسري إلى صاحِبه. وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدّة كُلَّ عمل ينشر السموم في المجتمع، أو يدفعه نحو الهاوية والإِنحطاط. ولهذا السبب حارب الإسلام - بقوة - الغيبة والنميمة، لأن الغيبة تكشف العيوب الخفية، وتسيء إلى حرمة المجتمع. أوجب الإسلام ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العمومية والشمول. وعندما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء، حتى أن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) قال: "المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له"(4). فالسبب هو ماذكرنا. وهكذا لنفس السبب يدين القرآن - بشدّة - ارتكاب الذنوب في العلن، كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها الآيات السابقة فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم، تأتي على المجتمع مِن أساسه فتنخُره حتى تَهْدِمَهُ وَتَذْروهُ، لهذا يجب الإسراع لإطفاء هذه النار، أو لمحاصرتها على الأقل. أمّا إذا زدنا النار لهيباً، ونقلناها من مكان إلى آخر، فإنّها ستحرق الجميع، ولا يمكن بَعْدَئذ إطفاؤُها أو السيطرة عليها. وإضافة إلى ذلك، فإنّه لو عظم الذنب في نظر عامّة الناس، وتمّت المحافظة على سلامة ظاهر المجتمع من التلوث والفساد، فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة. أمّا اشاعة الفحشاء والذنوب والتجاهر بالفسق، فمن نشأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد. ويستصغر شأن الذنوب من قبل الناس، ويسهل التورط فيها. وقد جاء في حديث للرسول الأكرم(ص) قوله "من أذاع فاحشة كان كمبتدئها"(5). وجاء في حديث آخر عن محمد بن الفضيل الإمام موسى بن جعفر(ع) قال: قلت له: جعلت فداك الرجل من اخواني بلغني عنه الشيء الذي اكرهه فاسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال الإمام(ع) لي: "يا محمّد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، وإن شهد عندك خمسون قسامة. وقال لك قول فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الذين قال الله عزَّوجلّ:(إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) (6) (7). وممّا يلزم ذكره أنّ لإشاعة الفحشاء صوراً عديدةً فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة ونَقلِها بين الناس. واخرى يكون بانشاء مراكِزَ للفساد ونشر الفحشاء. وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس، أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب. ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملاحظة الدين، ولا رعاية لقانون ولا التفات لآداب عامّة، وكل هذه مصاديق لإشاعة الفحشاء. لانّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً (فتأملوا جيداً). 2 - مصيبة الشائعات إن اختلاق ونشر الشائعة الكاذبة يُودِّي إلى سَيْطَرةِ القَلَقِ واستبدادِ الإضطراب وانعدام الثقةِ، وهذِهِ مِن أهَمِّ ما تَرْمي إليه الحَرْبُ النفسيّةُ للمستعمرين بغية إثارة الْبَلْبلةِ وَنشْرَ الفَزَع، ليتسنى لهم التَّغَلُّب العَسكريّ والسياسيّ. فعندما يعجز العدو عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة، يقوم بنشر الشائعات، لبث الرعب والقلق في الناس، ليشغلهم بأنفُسهم، وَلِيَحْرِفَهُمْ عَنْ أهم قضاياهم حساسيةٌ، وليتسنَّى لَهُ الظُهُورُ عليهم والتمكُّنُ مِنهُم في كل مجال. واختلاق الشائعة من الأسلحة المخربة المستعملة ضدّ الصالحين والطيبين، لِعَزْلِهِم وإقصاءِ الناس عنهم. وبحسب أسباب النّزول المعروفة بشأن الآيات موضع البحث لجأ المنافقون إلى أخَسَّ السبل لتلويث سمعة النّبي(ص) والحط من شأنه المقدّس لدى الناس، باختلاق شائعة تمسّ طهارة وعفة إحدى زوجاته مستغلين في ذلك فرصة سنحت لهم، ممّا أدى إلى تشويش أفكار المسلمين، وإدخال الحزن إلى قلوبهم، بحيث اضطرب الجميع. وأصاب المؤمنين القلق الشديد حتى نزل الوحي وأنقذهم من هذه الحالة، ومرّغ أنُوفَ المنافقين في الوَحلِ بما اختلقوا هذه الشائعة. وجعلهم عبرة للآخرين . ورغم أن اختلاق الشائعة يعد نوعاً من الكفاح في المجتمعات التي تسودها الدكتاتورية ويفتقد الناس فيها الحرية... إلاَّ أن من أسبابها ودوافعها الإنتقام، وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين، وإزالة الثقة العامّة بالشخصيات الكبيرة. وحرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية. ولا يهمنا أن نعلم دوافع اختلاق الشائعات، إنّما المهم تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في برائن الذين يختلقون الشائعات وينشرونها بين الناس، وبذلك يدمرون المجتمع وأنفسهم بأيديهم! وأن نعلّم الناس بأن يدفنوا الشائعة في مهدها،وإلاّ فقد أدخلنا السرور إلى قلب العدو، وعرضنا أنفسنا إلى عذاب الدنيا والآخرة كما نصت عليه الآيات السابقة. 3 - استصغار الذنب يستفاد من الآيات السابقة أنها استنكرتْ استصغار نشر البهتان والتهمة، وهو خطأ فادِحٌ وَجُرْمٌ عظيمٌ وفي الحقيقة إن استصغار الذنب بذاته ذنب آخر. فالذي يرتكب الذنب ويشعر بعظمة ذنبه، ويندم على ما فعل هو الذي يؤمل فيه التوبة والجبران. أمّا الذي يستصغر الذنب ويقول: ماأسعدني إن كان ذنبي هذا فقط فهذا الشخص يسير في طريق خطر وقد يواصل ارتكاب ذنبه، لهذا نقرأ في حديث للإمام علي(ع) قوله: "أشد الذنوب ما استهان به صاحبهُ"(8). ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب مع المبالغة فيها بقوله ﴿وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ وحذف الجواب اكتفاء بذكره سابقا.