وجاء في الآية اللاحقة: (فاتّقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم) لقد أمر الله تعالى أوّلا بإجتناب الذنوب، ثمّ بإطاعة الأوامر، وتعدّ الطاعة في قضيّة الإنفاق مقدّمة لتلك الطاعة، ثمّ يخبرهم أنّ خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم.
قال بعضهم: إن "خيراً" تعني (المال) وهو وسيلة لتحقيق بعض الطاعات، وما جاء في آية الوصية يعتبر تعزيزاً لهذا المعنى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف).(77)
وذهب البعض إلى أنّ كلمة (خيراً) جاءت بمعناها الواسع، ولم يعتبروها قيداً للإنفاق، بل هي متعلّقة بالآية ككل، فانّ ثمار الطاعة - كما يقولون - تعود لكم.
وربّما يكون هذا التّفسير أقرب من غيره(78).
والأمر بالتقوى بقدر المستطاع لا يتنافى مع ما جاء في الآية (102) من سورة آل عمران حيث تقول: (اتّقوا الله حقّ تقاته) بل هي مكمّلة لتلك ومن المسلّم أنّ أداء حقّ التقوى لا يكون إلاّ بالقدر الذي يستطيعه الإنسان، إذ يتعذّر التكليف بغير المقدور.
فلا مجال لإعتبار الآية - مورد البحث - ناسخة لتلك الآية في سورة آل عمران كما اعتقد البعض.
وللتأكيد على أهميّة الإنفاق ختمت الآية بـ (ومن يوق شحّ نفسه فاُولئك هم المفلحون).
"شحّ" بمعنى "البخل المرادف للحرص"، ومن المعلوم أنّ هاتين الخصلتين السيّئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصدّه عن الخير، ومن يتخلّص من هاتين الخصلتين السيّئتين فلا شكّ أنّه سيضمن السعادة.
هذا وتوجد رواية عن الإمام الصادق (ع) تقول: "من أدّى الزكاة فقد وقى شحّ نفسه"(79).
ويبدو أنّ ذلك أحد المصاديق الحيّة في مسألة الشحّ وليس كلّ (الشحّ).
وفي حديث آخر عن الصادق (ع) - أيضاً -: رأيت أبا عبدالله(ع) يطوف من أوّل الليل إلى الصباح وهو يقول: "اللهمّ قني شحّ نفسي" فقلت: جعلت فداك ما سمعتك تدعو، بغير هذا الدعاء قال: "وأي شيء أشدّ من شحّ النفس وأنّ الله يقول: (ومن يوق شحّ نفسه فاُولئك هم المفلحون)"(80).
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أي بقدر وسعكم وطاقتكم ﴿وَاسْمَعُوا﴾ قوله بقبول ﴿وَأَطِيعُوا﴾ أمره ونهيه ﴿وَأَنفِقُوا﴾ في طاعته ﴿خَيْرًا﴾ أي قدموا أو يكن إنفاقا خيرا ﴿لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فسر.