التّفسير:
فامسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف:
يشير في الآية مورد البحث، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة، إلى عدّة أحكام اُخرى، إذ يقول تعالى في البداية: (فإذا بلغن أجلهنّ فامسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف).
المراد ببلوغ الأجل "الوصول إلى نهاية المدّة" وليس المقصود أن تنتهي العدّة تماماً، بل تشرف على الإنتهاء، فإنّ الرجوع بعد نهاية العدّة غير جائز، إلاّ أن يكون إبقاؤهنّ عن طريق صيغة عقد جديدة، ولكن هذا المعنى بعيد جدّاً عن سياق ومفهوم الآية.
على أي حال فإنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجاً، وهي: إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق، أو أن ينفصلا بإحسان.
فالإنفصال ينبغي أن يتمّ بعيداً عن الهياج والعربدة، وعلى اُصول صحيحة، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعديّات، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الإستمرار مدّة طويلة.
هذا إضافة إلى أنّ الإنفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثاراً، ليس فقط على الزوج والزوجة، وإنّما قد تتعدّى إلى عشيرة وأقرباء كلّ منهما، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل.
ومن اللطيف حقّاً أن تحاط كلّ الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس بجوّ من الإحسان والإحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية، وحتّى لو وقع الطلاق فيجب أن يتمّ أيضاً بإحسان ودون مشاكل، فإنّ ذلك يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الإنتصار والموفّقية لكلا الطرفين.
ويتّضح ممّا سبق أنّ (الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف) له معنى واسع يشمل جميع الواجبات والمستحبّات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك العلاقة.
ثمّ يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول: (وأشهدوا ذوي عدل منكم).
وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى.
وبعض المفسّرين احتمل الإشهاد لكلا الأمرين: الطلاق والرجوع، غير أنّ الإشهاد ليس واجباً قطعاً في التزويج فضلا عن الرجوع.
وعلى فرض أنّ المورد يشمل الرجوع فيكون من باب الإستحباب.
وفي الحكم الثالث يبيّن القرآن الكريم وظيفة الشهود، حيث يقول: (وأقيموا الشهادة لله) حذار أن يكون ميلكم وحبّكم لأحد الطرفين مانعاً عن إظهار الحقّ، وينبغي أن تتمّ الشهادة لله ولإظهار الحقّ، وينبغي أن يكون الشهود عدولا، ولما كانت عدالة الشاهد لا تعني انّه معصوم من الذنب، ولهذا يحذّرهم الله تعالى لكي يراقبوا أنفسهم لئلاّ ينحرفوا عن جادّة الحقّ بعلم أو بغير علم.
وينبغي أن يشار إلى أنّ تعبير (ذوي عدل منكم) دليل على أنّ الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور.
ولتأكيد الأحكام السابقة جميعاً تقول الآية الكريمة: (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر).
ربّما اعتبر البعض "ذلكم" إشارة - فقط - إلى مسألة التوجّه إلى الله ومراعاة العدالة من جانب الشهود، غير أنّ الظاهر أنّ هذا التعبير يشمل كلّ الأحكام السابقة حول الطلاق.
وعلى أيّة حال فإنّ هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يولّيها القرآن الكريم لأحكام الطلاق، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتّعظ بها فكأنّه أنكر الإيمان بالله واليوم الآخر.
وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإنّ الزوجين قد ينحرفان عن جادّة الصواب عند الطلاق والرجوع، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة، لهذا تؤكّد الآية في نهايتها قائلة:
(ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً) ويساعده حتماً على إيجاد الحلّ لمشكلاته.
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ قاربن آخر عدتهن ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ بالرجعة ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ بحسن عشرة لا بإضرار ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ﴾ اتركوهن حتى تنقضي عدتهن ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ بطريق جميل لا بإضرار بأن يراجع فيطلق لتطول عدتها ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ على الطلاق ﴿ذَوَيْ عَدْلٍ﴾ أي عدلين ﴿مِّنكُمْ﴾ أيها المسلمون ويفيد أن العدالة وراء الإسلام ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ﴾ أيها الشهود عند طلبها ﴿لِلَّهِ﴾ لوجهه لا لغرض آخر ﴿ََذَلِكُمْ﴾ المذكور من الأحكام ﴿يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فإنه المنتفع بالوعظ ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ﴾ في أوامره ونواهيه ﴿يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ من كرب الدنيا والآخرة وغمومها ومنها غم الأزواج.