وذكر عدد من المفسّرين سبباً لنزول الآية الثّانية - من الآيات موضع البحث - يكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة، قال: إنّ هذه الآية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مساعدة مالية إلى الذين تورّطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس، وألا يشاركوهم همومَهم، فنزلت هذه الآية لتمنعهم من رَدَّ فعل قاس، وأمرتهم بالعفو والسماح.
وقد روى سبب النّزول هذا "القرطبي" في شأن نزول هذه الآيات في تفسيره عن ابن عباس والضحاك، ورواه المرحوم "الطبرسي" عن ابن عبّاس، ورواهُ آخرون لدى تفسير الآيات موضع البحث، وهو يمتاز بعموميته.
إلاّ أن مجموعة من مفسّري أهل السنة يُصرُّون على أن هذه الآية نزلت بخصوص "أبي بكر" حيث أقسم بعد حادث الإفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية لـ "مسطح بن أثاثة" الذي كان ابن خالته، أو ابن أخته، وهو الذين نشر شائعة الإفك، في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الآية، جاءت بصيغة الجمع، وتبيّن أنّ مجموعة من المسلمين اتخذوا قراراً بقطع مساعداتهم عن هؤلاء المجرمين، إلاّ أنّ هذه الآية نهتهم عن العمل.
ومن المعلوم أنّ الآيات القرآنية لا تختص بسبب النّزول فقط، بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، فهي توصي المسلمين جميعاً بألاّ يستسلموا لعواطفهم، وألاّ يتخذوا مواقف عنيفة إزاء أخطاءِ الآخرين.
نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النّزول هذا: يقول القرآن (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله).
إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذْ خدعهم المنافقون، ولم يُجز الله طردهم من المجتمع الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر ممّا يستحقونه.
كلمة "يأتل" مشتقّة من "أليّة" (على وزن عطيّة) أي اليمين، أو إنّها مشتقة من "ألُو" (على وزن دلو) بمعنى التقصير والترك.
وعلى هذا، فإنّ الآية تعني وفق المعنى الأوّل النّهي عن هذا القَسَمْ بقطع مثل هذه المساعدات(3) ، وعلى المعنى الثّاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل.
ثمّ تضيف الآية (وليعفوا وليصفحوا) لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: (ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).
فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين (والله غفور رحيم).
والمثير للدهشة أنّ أصحاب الإفك أُدينوا بشدّة في آيات شديدة اللهجة، إلاّ أنّها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحدّ في العقوبة بثلاث جمل ذاتِ تَشَعْشُع أخَّاد، الأول: الأمر بالعفو والسماح.
ثمّ تقول: ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك.
ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله "الغفور" و"الرحيم".
وهكذا تقول الآية للناس: لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم، وهو يأمركم بألاّ تقطعوا مساعداتكم.
ممّا لاشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد، ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضلَّلون.
ولا شك في أنّهم جميعاً مقصّرون ومذنبون، ولكن بين هاتين المجموعتين فرق كبير، وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية.
وعلى كل حال، ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم، وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحدُّ المقرّرُ في معاقبةِ المذنبينِ، ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي، أو اغلاق باب المساعدة في وجوهم، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافاً فيقعوا في أحضان العدو، أو ينحازوا إلى جانبه.
وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم "قوة الدفع". وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفوراً رحيماً. فإنها تكشف عن "قوة الجذب"!
﴿وَلَا يَأْتَلِ﴾ ولا يحلف من الألية أو لا يقصر من الألو ﴿أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ﴾ أهل الغنى ﴿وَالسَّعَةِ﴾ في المال ﴿أَن يُؤْتُوا﴾ أو في أن يؤتوا ﴿أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾ عنهم ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ على عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ للمؤمنين.