ثمّ يضرب الله تعالى مثلا آخر للنساء المؤمنات الصالحات، حيث يقول جلّ من قائل: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا)(141).
فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولداً صار نبيّاً من أنبياء الله العظام (من اُولي العزم).
ويضيف تعالى قائلا: (وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه) و (كانت من القانتين).
كانت في القمّة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية، ثمّ إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الإستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.
ويمكن أن يكون التعبير بـ (الكتب) إشارة إلى كلّ الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، بينما التعبير بـ (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل كتاب.
ونظراً لرفعة مقام مريم وشدّة إيمانها بكلمات الله، فقد وصفها القرآن الكريم في الآية (75) من سورة المائدة (صدّيقة).
وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة، منها ما جاء في السورة التي سمّيت باسمها أي (سورة مريم).
على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم تصدّى للشبهات التي أثارها بعض اليهود المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة، ونفى عنها كلّ التّهم الرخيصة حول عفافها وطهارتها وكلّ ما يتعلّق بشخصيتها الطاهرة.
والتعبير بـ (ونفخنا فيه من روحنا) لإظهار عظمة وعلو هذه الروح، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. أو بعبارة اُخرى: إنّ إضافة كلمة (روح) إلى "الله" إضافة تشريفية لبيان عظمة شيء مثل إضافة "بيت" إلى "الله".
ومن الغريب ما كتبه بعض المفسّرين من إعتبارهم عائشة أفضل النساء، وأنّها أعظم من غيرها من النساء ذوات القدر الكبير والشأن عند الله.
ولقد كان حريّاً بهم أن لا يتطرّقوا إلى هذا الحديث في هذه السورة، التي نزلت لتعلن خلاف ما ذهبوا إليه وبشكل صريح لا يقبل الجدل.
فإنّ كثيراً من مفسّري ومؤرّخي أهل السنّة أكّدوا على أنّ اللوم والتوبيخ اللذين وردا في الآيات السابقة كانا موجّهين إلى زوجتي الرّسول (ص) "حفصة" و "عائشة" ومنها ما جاء في صحيح البخاري الجزء السادس صفحة 195 ونحن ندعو بهذه المناسبة أهل التفكير الحرّ جميعاً لأن يعيدوا تلاوة آيات هذه السورة ثمّ ليتعرّفوا على قيمة وجدارة مثل هذه الأحاديث.
اللهمّ جنّبنا الحبّ الأعمى والبغض الأعمى الذي لا يقوم على البرهان بقدر ما يقوم على العصبية، واجعلنا من المستسلمين الخاضعين بكلّ وجودنا إلى آيات قرآنك المجيد.
ربّنا ولا تجعلنا من الذين غضب عليهم الرّسول فلم يرض أعمالهم وطريقة حياتهم.
اللهمّ هب لنا إستقامة لا نتأثّر معها بالضغوط، ولا نخضع لعذاب الفراعنة وجبابرة العصر.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة التحريم
﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾ عطف على امرأة فرعون ﴿الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ من الرجال ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ التي خلقناها أو من جهة روحنا جبرائيل نفخ في جيبها فحملت بعيسى ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾ بشرائعه ﴿وَكُتُبِهِ﴾ الإنجيل أو جنس الكتب المنزلة ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ من جملة المطيعين والتذكير للتغليب أو المبالغة بمساواتها في الطاعة لكاملي الرجال، وفي المثلين تعريض بالامرأتين وتظاهرهما على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، أي كان من حقهما أن يكونا كآسية ومريم لا كامرأتي نوح ولوط.