التّفسير:
لا أمان للعاصين من عقاب الله:
بعد الأبحاث التي إستعرضناها في الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار وأصحاب الجنّة، والكافرين والمؤمنين، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى بعض النعم الإلهية، ثمّ إلى أنواع من عذابه، وذلك للترغيب والتشويق بالجنّة لأهل الطاعة، والإنذار بالنار لأهل المعصية، يقول تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا).
(فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور).
"ذلول" بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض، لأنّ هذا المركب السريع السير جدّاً، مع حركته المتعدّدة، يلاحظ هادئاً إلى حدّ يبدو وكأنّه ساكناً بصورة مطلقة.
يقول بعض العلماء: إنّ للأرض أربع عشرة حركة مختلفة، ثلاث منها هي:
الاُولى: حركتها حول نفسها.
والثانية: حول الشمس.
والثالثة: مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرّة.
هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة، هي من التناسب والإنسجام إلى حدّ لم يكن ليصدق أحد أنّ للأرض حركة لولا إقامة البراهين القطعية على حركتها.
هذا من جهة، ومن جهة اُخرى.
فإنّ قشرة الأرض ليست قويّة وقاسية إلى حدّ لا يمكن معه العيش فوقها، ولا ضعيفة ليّنة لا قرار لها ولا هدوء، وبذلك فإنّها مناسبة لحياة البشر تماماً، فلو كان معظم سطح الكرة الأرضية مغموراً بالوحل، والمستنقعات - مثلا - فعندئذ تتعذّر الإستفادة منها، وكذلك لو كانت الرمال الناعمة تغمرها فإن قدم الإنسان تغور فيها حتّى الركب، وكذا لو كانت مكوّناتها من الصخور الحادّة القاسية فعندئذ يتعذّر المشي عليها، ومن هنا يتّضح معنى إستقرار الأرض وهدوئها.
ومن جهة ثالثة فإنّ بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حدّ يؤدّي بحرارة الشمس إلى أن تحرق كلّ شيء على وجهها، ولا هو ببعيد عنها بحيث يتجمّد كلّ شيء على سطحها.
وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية، فإنّه متناسب بما يؤدّي إلى هدوء الإنسان وراحته، فهو ليس بالشديد بالصورة التي يسبّب له الإختناق، ولا بالمنخفض بالشكل الذي يتلاشى فيه معه.
والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية، هي ليست شديدة إلى حدّ تتهشّم فيها عظام الإنسان، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلّقاً لا يستطيع الإستقرار في مكان.
والخلاصة: إنّ الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخّرة لخدمة الإنسان في جميع المجالات، والظريف هنا بعد وصفه تعالى للأرض بأنّها (ذلول) أمره لعباده بأن يسيروا في (مناكبها).
و"مناكب" جمع (منكب) على وزن (مغرب) بمعنى الكتف، وبذلك تسخر الأرض للإنسان ويضع قدميه عليها سائراً على كتفها وهي هادئة ومتوازية ومحتفظة بتعادلها.
كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب الرزق والحصل عليه، وإلاّ فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلّفين عن السعي.
إنّ التعبير بـ (الرزق) - هنا - تعبير جامع وشامل، حيث يعني كافّة الموارد الأرضية، وهو أعمّ من النعم الحيوانية والنباتية والمعدنية التي فيها.
ويجب الإلتفات إلى أنّ هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم، إذ أنّ كلّ ذلك وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكم الأبدية.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ منقادة لتصرفاتكم بحرث وحفر وبناء ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ جوانبها أو جبالها إذ منكب الشيء جانبه وأعلاه ﴿وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ مرجعكم أحياء للجزاء.