وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى اُسلوب التهديد والإنذار فيقول سبحانه: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور).
نعم، إنّ الباريء تعالى إذا أمر أو أراد فإنّ هذه الأرض الذلول الهادئة تكون في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح، تبدأ بالزلازل، وتتشقّق وتدفنكم وبيوتكم ومدنكم تحت ترابها وحجرها، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي عليكم وعلى مساكنكم التي متّعتم فيها برهة من الزمن.
جملة (فإذا هي تمور) يمكن أن تكون إشارة إلى قدرة الله سبحانه على أن يأمر الأرض أن تبتلعكم، وتنقلكم باستمرار - وأنتم في داخلها - من مكان إلى آخر بحيث أنّ الهدوء لا يشملكم حتّى وأنتم في قبوركم.
وهكذا تفقد الأرض إستقرارها وهدوءها إلى الأبد، وتسيطر الزلازل عليها، وهذا الأمر سهل الإدراك والتصوّر للذين عاشوا في المناطق الزلزالية، وشاهدوا كيف أنّ الزلازل تستمر عدّة أيّام أحياناً وتبقى الأرض غير مستقرّة وتسلب من سكّان تلك المناطق لذّة النوم والأكل والراحة، غير أنّ تصوّر هذا الأمر بالنسبة إلى عامّة الناس الذين ألّفوا هدوء الأرض أمر صعب.
التعبير بـ (من في السماء) إشارة إلى ذات الله المقدّسة، ولمّا كانت حاكميته على جميع السماوات ومن فيها من الاُمور المسلّمة، فما بالك بحاكميته على الأرض، إنّها من الاُمور التي لا شكّ فيها - أيضاً - بل هي من باب الاُولى.
قال البعض: إنّ العبارة السابقة إشارة إلى ملائكة الله سبحانه في السماء المكلّفين بتنفيذ أوامره تعالى.
ثمّ يضيف سبحانه: (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً) فلا يلزم حتماً حدوث زلزلة لتدميركم، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم تحت رمالها... وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي: (فستعلمون كيف نذير).
إنّ إدراك طبيعة هذا التساؤل سهل بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا في المناطق الرملية المتحرّكة والرياح (الحاصبة)، (وهي الرياح التي تحرّك كميّات الحصى المتراكمة وتنقلها من مكان إلى آخر) فهؤلاء يدركون إمكانية دفن البيوت أو القرى في لحظات تحت تلال من الحصى والرمال المتحرّكة، وكذلك القوافل السائرة في وسط الصحراء.
وفي الحقيقة فإنّ الآيات أعلاه تؤكّد أنّ عذاب العاصين والمجرمين لا ينحصر في يوم القيامة فقط، حيث يستطيع الباريء عزّوجلّ أن يقضي على حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض، أو بحركة الرياح، وإن أفضل دليل على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الاُمور في الاُمم السابقة.
﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ أمره وسلطانه ﴿أَن يَخْسِفَ﴾ بدل من من ﴿بِكُمُ الأَرْضَ﴾ المذللة لكم ﴿فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ تضطرب بكم