التّفسير:
عجباً لأخلاقك السامية:
هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى: (ن).
وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة، خصوصاً في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك.
كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلاّ أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.
وبناءً على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقاً.
ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان، فيقول تعالى: (والقلم وما يسطرون).
كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهراً بمواضيع صغيرة، أي قطعة من القصب - أو شيء يشبه ذلك - وبقليل من مادّة سوداء، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.
إلاّ أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدراً لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية... كان بفضل ما كُتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الاُمم وهداية الإنسان... وكان ذلك بواسطة (القلم).
لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين: (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن إخترع الإنسان الخطّ وإستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات، وبتعبير آخر، يبدأ عندما أخذ الإنسان القلم بيده، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليداً لماضيه.
وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة، فإنّ عددهم في كلّ مكّة - التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والإقتصادي لأرض الحجاز - لم يتجاوز الـ (20) شخصاً.
ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.
والرائع هنا أنّ الآيات الاُولى التي نزلت على قلب رسول الله (ص) في (جبل النور) أو (غار حراء) قد اُشير فيها أيضاً إلى المنزلة العليا للقلم، حيث يقول تعالى: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم)(175).
والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ، وهذا دليل أيضاً على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.
وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها: (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي)، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر)، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.
كما أنّ لجملة (ما يسطرون) مفهوماً واسعاً أيضاً، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(176).
﴿ن﴾ روي أنه نهر في الجنة وقيل اسم للحوت أو للدواة ﴿وَالْقَلَمِ﴾ الذي كتب به اللوح أو الذي يكتب به ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ يكتبون أي الحفظة أو أصحاب القلم.