وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك باللّه تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات اللّه تعالى: (وإنّه تعالى جدّ ربّنا ما اتّخذ صاحبة ولا لداً).
"جد": لها معان كثيرة في اللغة، منها: العظمة، والشدّة، والجد، والقسمة، والنصيب، وغير ذلك، وأمّا المعنى الحقيقي لها كما يقول الراغب في المفردات فهو "القطع"، وتأتي بمعنى "العظمة" إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن بقية الكائنات، وكذلك يمكن الأخذ بما يناسب بقية المعاني التابعة لها، وإذا ما أطلقنا لفظة "الجد" على والدي لأبوين فإنّما يعود ذلك إلى كبر مقامهما أو عمرهما، وذكر آخرون معاني محدودة لهذه الكلمة فقد فسّروها بالصفات، والقدرة، والملك، والحاكمية، والنعمة، والاسم، وتجتمع كل هذه المعاني في معنى العظمة، وهناك ادعاء في أنّ القمصود هنا هو الأب الأكبر "الجد" وتشير الرّوايات إلى أنّ الجنّ ولقلّة معرفتهم اختاروا هذا التعبير غير المناسب، هذا إشارة إلى نهيهم عن ذكر هذه التعابير (7).
ويمكن أن يكون هذا الحديث ناظراً إلى الموارد التي يتداعى فيها هذا المغهوم، وإلاّ فإنّ القرآن يذكرهذا التعبير بلحن الموافق في هذه الآيات، وإلاّ لم وقد ذكر هذا التعبير أيضاً في نهج البلاغة، كما في الخطبة (191): "الحمد للّه الفاشي في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جدّه".
وورد في بعض الرّوايات أنّ أُنس بن مالك قد قال : كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد في أعيننا (8).
على كل حال فإنّ استعمال هذه اللفظة في المجد والعظمة مطابق لما ورد في نصوص اللغة، ومن الملاحظ أنّ خطباء الجن معتقدون بأنّ اللّه ليس له صاحبة ولا ولد، ويحتمل أن يكون هذا التعبير نفيّ للخرافة المتداولة بين العرب حيث قالوا: إنّ للّه بنات لزوجة من الجن قد اتّخذها لنفسه، وورد هذا الإحتمال في تفسير الآية (158) من سورة الصافات: (وجعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نسباً).
ثمّ قالوا: (وإنّه كان يقول سفيهنا على اللّه شططاً).
ويحتمل أنّ التعبير بـ "السفيه" هنا بمعنى الجنس والجمع، أي أنّ سفهاءنا قالوا: إنّ للّه زوجة وأطفالاً، واتّخذ لنفسه شريكاً وشبيهاً، وإنّه قد انحرف عن الطريق، وكان يقول شططاً، واحتمل بعض المفسّرين أنّ "السفيه" هنا له معنى انفرادي، والمقصود به هو "ابليس" الذي نسب إلى اللّه نسب ركيكة، وذلك بعد مخالفته لأمر اللّه، واعتراضه على اللّه في السجود لآدم (ع) ظنّاً منه أنّ له الفضل على آدم، وأنّ سجوده لآدم بعيد عن الحكمة.
ولمّا كان ابليس من الجن، وكان قد بدا منهُ ذلك، اشمأز منه المؤمنون من الجن واعتبروا ذلك منه شططاً، وإن كان عالماً وعابداً، ولأن العالِم بلا عمل، والعابد المغرور من المصاديق الواضحة للسفيه.
"شطط" على وزن وسط، وتعني الخروج والإبتعاد عن قول الحقّ، ولهذا تسمّى الأنهار الكبيرة التي ترتفع سواحلها عن الماء بـ "الشط".
﴿وَأَنَّهُ﴾ أي الشأن ﴿تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا﴾ تنزه جلالة وعظمة أو ملكه وغناه عما نسب إليه من الصاحبة والولد﴿مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾.