التفسير:
الفتنة باغدق النعمة:
هذه الآيات تشير ظاهراً إلى استمرار الجن في حديثهم مع قومهم: (وإن كان بعض المفسّرين يعتبرون هذه الآية معترضة بين كلام الجن) ولكن اعتراضها خلاف الظاهر، وسياق هذه الآيات يشابه السابقة والذي كان من كلام الجن، ولذا يستبعد أن يكون هذا الكلام هو لغير الجن.(1)
على كل حال فإنّ سياق الآيات السابقة يشير إلى ثواب المؤمنين في يوم القيامة، وفي هذه الآيات يتحدث عن ثوابهم الدّنيوي فيقول: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً) ننزل عليهم مطر رحمتنا، ونذلل لهم منابع وعيون الماء الذي يهب الحياة وبوجود الماء يوجد كل شيء وعلى هذا فإنّنا نشلمهم بأنواع النعم.
"غدق" على وزن شفق، وتعني الماء الكثير القرآن المجيد اكّد ولعدّة مرات على أنّ الإيمان والتقوى ليست فقط منبعاً للبركات المعنوية، بل تودّي إلى زيادة الأرزاق والنعم والعمران، أي (البركة والمادية).
(لنا بحث مفصل في هذا الباب في نفس المجلد في تفسير سورة نوح (ع) ذيل الآية 12 تحت عنوان الرابطة بين الإيمان والتقوى وبين العمران).
الملاحظ حسب هذا البيان أنّ سبب زيادة النعمة هو الإستقامة على الإيمان، وليس أصل الإيمان، لأنّ الإيمان المؤقت لا يستطيع أن يظهر هذه البركات، فالمهم هو الإستقامة والإستمرار على الإيمان والتقوى، ولكن هناك الكثير ممن تزل أقدامهم في هذا الطريق.
والآية الأُخرى إشارة إلى حقيقة أُخرى بنفس الشأن، فيضيف: (لنفتنهم) هل أنّ كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنّها تجعلهم يفيقون ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى اللّه؟
ومن هنا يتّضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمّة في الإمتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الإختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الإختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الإنحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللّه تعالى ويُهيء الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هو الذاكرون للّه على كلّ حال، غير الناسين له تعالى، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ الشياطين (2).
ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: (ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً).
"صعد": على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الأُمور الشّاقة، وفسّرها الكثير بمعنى العذاب الشّاق، وهو مماثل لما جاء في الآية (17) من سورة المدّثر حول بعض المشركين: (سأُرهقه صعوداً).
ولكن، أنّه مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، رابطة كثرة النعم بالإختبارات الإلهية من جهة أُخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة، وهذه حقائق اُشير إليها في الآيات القرآنية الأُخرى كما نقرأ في الآية (124) من سورة طه: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً).
وكذا في الآية (40) من سورة النمل عن لسان سليمان (ع): (هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر)، وما جاء في الآية (28) من سورة الأنفال: (واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة).
﴿وَأَلَّوِ﴾ الشأن ﴿اسْتَقَامُوا﴾ أي الثقلان أو أحدهما ﴿عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾ أي الإيمان ﴿لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾كثيرا أي لوسعنا عليهم الرزق وخص الماء بالذكر لأنه أصل السعة.