التفسير:
قم وانذر النّاس:
لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبي (ص) وإن لم يصرح باسمه، ولكن القرائن تشير إلى ذلك، فيقول أوّلاً: (يا أيّها المدثر قم فانذر) فلقد ولى زمن النوم الإستراحة، وحان زمن النهوض والتبليغ، وورد التصريح هنا بالانذار مع أنّ النّبي (ص) مبشرٌ ونذير، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصاً في بداية العمل.
وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثره (ص) ودعوته إلى القيام والنهوض.
1 - اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤوساء منهم كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبي (ص) باسم، ليصدوا الناس عنه، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحراً، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه، وكانت دعوة النبيّ (ص) قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبي (ص) فتأثر واغتم لذلك، فأمر بالدثار وتدثر، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.
2 - إنّ هذه الآيات هي الآيات الأُولى التي نزلت على النّبي (ص) لما نقله جابر بن عبد اللّه قال: جاورت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد، أنت رسول اللّه، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فملئت منه رعباً، فرجعت إلى خديجة وقلت: "دثروني دثروني، وأسكبوا عليّ الماء البارد"، فنزل جبرئيل بسورة: (يا أيّها المدّثر).
ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة تطرقت للدعوة العلنية، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة، إلاّ أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة، والآيات الاُخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.
3 - إنّ النّبي كان نائماً وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيل (ع) موقظاً إيّاه، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.
4 - ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية، بل تلبسه (ص) بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.
5 - المراد به اعتزاله (ص) وانزواؤه واتّخاذه الوحدة، ولهذا تقول الآية اخرج من العزلة والإنزواء، واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد (1) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهراً.
ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه، وهذا يدل على العمومية، يعني انذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر...الخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم).
ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاُخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.
﴿قُمْ﴾ من مضجعك أو شمر وجد ﴿فَأَنذِرْ﴾ ترك مفعوله للتعميم أو قومك.