لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وبيّنت الآية الأخيرة في ثلاث جمل، الجذور الأساسية ودوافع عدم التسليم إزاءَ تحكيم الرّسول(ص) فقالت أوّلا (أفي قلوبهم مرض). هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون بالإيمان، ولكنّهم لا يُسلِّمون بحكم الله ورسوله، ولا يستجيبون له، إمّا بسبب انحرافهم قلبياً عن التوحيد أو الشك والتردد (أم ارتابوا) وطبيعي أنّ الذي يتردّد في عقيدته، لن يستسلم لها أبداً. وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا، أي كانوا من المؤمنين: (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله). في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضاً صريحاً، إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمد(ص) ويعتبر حكمه حكم الله تعالى أن يَنْسِب الظلم إلى الرّسول(ص) ؟! وهل يمكن أن يظلم الله أحداً؟ أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟ إنّ الله تعالى مقدَّس عن كلّ هذه الصفات (بل أُولئك هم الظالمون) إنّهم لا يقتنعون بحقّهم، وهم يعلمون أنَّ النّبي الأكرم(ص) لا يجحف بحقِ أحد، ولهذا لا يستسلمون لحكمه. ويرى مفسّر "في ظلال القرآن": في الآية: (أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟) أنّ السؤال الأوّل للإِثبات، أي لاثبات وجود مرض النفاق في قلوبهم فمرض القلب جدير بأن ينشىء مثل هذا الأثر. والسؤال الثّاني للتعجب، فهل هم يشكّون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكّون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكّون في صلاحيته لإقامة العدل؟ والسؤال الثّالث لاستنكار أمرهم الغريب، والتناقض الفاضح بين إدعائهم وعملهم. وإنّه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان، فالله خالق الجميع وربّ العالمين، فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب مخلوق آخر(2). وما يورده هذا المفسّر هو أنَّ عبارة "أم ارتابوا" تعني الشك في عدالةِ الرّسول(ص) وفي صحة تحكيمه في الوقت الذي يرى كثير من المفسّرين أنَّهُ الشكُ في أصل النّبوة كما هو الظاهر. بحثان 1 - مرض النفاق ليست هذهِ المرة الأُولى التي يستخدم فيها القرآن عبارة "المرض" للنفاق، فقد استخدمها في مطلع سورةِ البقرة عند بيانه لصفات المنافقين (في قلوبهم مرض فزادهم الله مَرضاً) وكما قُلنا في المجلد الأوّل في أثناءِ تفسير الآية المذكورة، فإنّ النفاق في حقيقته مرض وانحراف عن الطريق السوي، فالإنسان السليم له صورة واحدة هي انسجامٌ روحِه مع بدنه. فإذا كان مؤمناً فكلّ أجزاء بدنه تعبر عن إيمانها، وإذا كان عديم الإيمان فإنّ ظاهره وباطنه يكشفان عن كفره وانحرافه. أمّا إذا كان مُتظاهراً بالإيمان ومبطناً للكفر، فإنّ ذلك يعتبر نوعاً من المرض. وبما أنَ هؤلاء الأشخاص (المنافقين) لا يستحقون لطف الله ورحمته، بسبب عنادهم وإصرارهم على المُضِي بمناهجهم المنحرفة، فقد تركهم الله على حالهم، ليزدادوا مرضاً. والمنافقون في الواقع أخطر مجموعة في المجتمع، لأنّه لا يتّضح للمؤمن بأيّ أُسلوب يجب أن يعاملهم، فهم ليسوا أصدقاء ولايبدون أنّهم أعداء، فيستفيدون من إمكاناتِ المؤمنين ويصونون أنفسهم عن العقاب المفروض على الكفار بالتظاهر وإخفاءِ حقائِقهم المشؤُومِة، فأعمالهم أتعس من أعمال الكفّار. ولكن هؤلاءِ لا يمكنهم أن يُواصِلُوا هذا المنهج لمدّة طويلة، فلابدّ أن يفتضح أمرهم وينكشف باطنهم. وكما ذكرت الآيات - موضع البحث - وسببُ نُزولها. افتضاحهم في عملية تحكيم واحدة وانكشاف باطنهم الخبيث(3). 2 - الحكومة العادلة هي الحكومة الإلهية فقط: لاشك في أن الانسان مهما سعى في تهذيب نفسه مِن الصفات الرذيلة، خاصّة الكِبر والبغضاء وحب الذات والأنانية، فإنّه قد يبتلى ببعضها دون وعي منه، إلاّ المعصوم من البشر، إذ يعصمه الله من الخطأ والزلل. ولهذا السبب نقول: الله وحده هو المشرّع الحقيقي، لأنّه إضافة إلى علمه المطلق بحاجات الإنسان، فإنّه يعلم سبل سدِّ هذه الحاجات، وهو الذي لا يزلُّ ولا ينحرف بسبب احتياجه وميول الحب والبغض فيه سبحانه. وقضاء الله والنّبي والإمام المعصوم أفضل قضاء، ويليهم التابعون السائرون على نهجهم المتوكلون على الله، إلاّ أنّ البشر الذي يصاب بالكبر وحبّ الذات لا يرضخ لهذا القضاء، فهو يبحث عن قضاء يشبع طمعه وشهواته. ما أجمل العبارة التي استخدمتها الآية الكريمة بحق هؤلاء (أُولئك هم الظالمون). كما أنّ المرور في مثل هذا الإمتحان، خير دليل على إيمان الإنسان أو عدم إيمانه. ويستوقفنا قولُ القرآن في موضعِ آخر (فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلموا تسليماً) (4). أجل، المؤمنون الحقيقيون لا يرتضون قضاءَك فحسب، وإنّما قد سلّموا أنفسهم لك حتّى إنْ لحقهم ضررٌ. أمّا المنافقون، فلا يقنعون بحكم من الله ورسوله(ص) إلاّ ما يحقق مصالحهم، فهم عبيد لها، وعلى الرغم من ادعائهم الإيمان، فهم مشركون حقّاً! ﴿أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ كفر ﴿أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ في الحكم ﴿بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي لا يخافون حيفه بل الظلم صفتهم.