لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ويضيف القرآن قائلاً: (كلاّ سيعلمون) (4)، فليس الأمر كما يقولون أو يظنون. ويجدد التأكيد: (ثم كلاّ سيعلمون). فسيعلمون في ذلك اليوم الواقع حتماً: (أنْ تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) (5)، يوم ينهال العذاب الإلهي على الكافرين فيقولون بصرخات مستغيثة: (هل إلى مردٍّ من سبيل) (6). بل وإنّ طلب العودة إلى الحياة لجبران خطيئاتهم سيطرح في أُولى لحظات الموت، حين تزال الحجب عن عين الإنسان فيرى بأُمِّ عينيه حقيقة عالم الآخرة، فيستيقن حياة البرزخ والمعاد، ولا يبقى عنده إلاّ أنْ يقول: (ربِّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) (7). "السين" في "سيعلمون" حرف استقبال (يستعمل للمستقبل القريب)، وهو في الآية المباركة يشير إلى قرب وقوع يوم القيامة، وما نسبة أيّام الدنيا للآخرة إلاّ ساعة من الزمن! أمّا تكرار جملة "كلاّ يسعلمون"، فقيل: للتأكيد. وقيل: لبيان وقوع أمرين... الأوّل: قرب وقوع العذاب الدنيوي. والثّاني: الإشارة إلى قرب عذاب الآخرة أيضاً. وقد رجح المفسّرون التفسير الأوّل. وثمّة احتمال آخر، وهو أنّ نمو وتطور الفكر البشري سيوصل البشرية إلى التقدم العلمي الذي يثبت بالأدلة العلمية والشواهد الحيّة تحقق يوم القيامة، بالشكل الذي يبطل كل حيل الإنكار وعدم الاقرار. ويُشكل على هذا الإحتمال... كون ما سيحصل من تطور وتقدم إنّما يختص بالأجيال القادمة، في حين أنّ الآية تتحدث عن المشركين في عهد النّبي (صلى الله عليه وآله)، وتناولت مسألة اختلافهم في أمر يوم القيامة. بحوث 1 - "الولاية" و"النبأ العظيم" تقدم أنّ هناك عدّة معان للـ "النبأ العظيم"، مثل: القيامة، القرآن، أُصول الدين... إلاّ أنّ القرائن الموجودة في مجموع آيات السورة تدعم تفسير "النبأ" بـ "المعاد" وترجحه على الجميع. ولكنّنا نجد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وفي بعض روايات أهل السُنّة أنّ "النبأ العظيم" بمعنى إمامة أمير المؤمنين علي (ع)، حيث كانت مثار جدال ونقاش بين جمع من المسلمين، وهناك من فسّر "النبأ العظيم" بالولاية بشكل عام. وإليكم ثلاث روايات، على سبيل المثال لا الحصر: 1 - ما روى الحافظ محمّد بن مؤمن الشيرازي (أحد علماء السنّة) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في تفسير (عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم): "ولاية علي يتساءلون عنها في قبورهم، فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في برّ ولا في بحر إلاّ ومنكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين بعد الموت، يقولان للميت: "مَنْ ربّك؟ وما دينك؟ ومَنْ نبيّك؟ ومَنْ إمامك؟" (8). 2 - وروي أنّ رجلاً خرج يوم صفين من عسكر الشام وعليه سلاح وفوقه مصحف وهو يقرأ: (عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم) فخرج له علي (ع)، فقال له: "أتعرف النبأ العظيم الذي هم فيه يختلفون"؟ قال: لا. فقال له (ع): "أنا والله النبأ العظيم الذي فيه اختلفتم وعلى ولايته تنازعتم، وعن ولايتي رجعتم بعدما قبلتم، وببغيكم هلكتم بعدما بسيفي نجوتم، ويوم الغدير قد علمتم، ويوم القيامة تعلمون ما علمتم" (9). 3 - روي عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال، "النبأ العظيم الولاية" (10). وللجمع بين مضمون ما تناولته الروايات وما جاء في تفسير النبأ العظيم بالمعاد، لابدّ من الانتباه إلى ما يلي: 1 - "النبأ العظيم" كمفهوم قرآني - مثل سائر المفاهيم القرآنية - له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان، وإذا كانت قرائن السورة تدلّ على أنّ المقصود منه "المعاد"، فهذا لا يمنع من أنْ تكون له مصاديق أُخرى. 2 - كما هو معلوم أنّ للقرآن بطوناً مختلفة وظواهراً متعددة، وأدلة وقرائن الإستخراج مختلفة أيضاً، وبعبارة أُخرى: أنّ لمعاني آيات القرآن دلالات التزامية لا يعرفها إلاّ مَنْ غاص في بحر علمها ومعرفتها، ولا يكون ذلك إلاّ للخاصّة من الناس. وليست الآية المذكورة منفردة في أنّ لها ظاهر وباطن دون بقية آيات القرآن، حيث أنّ الأحاديث والرّوايات الشريفة فسّرت كثير من الآيات بمعان مختلفة، بعضها ما ينسجم مع ظاهر الآية، والبعض الآخر يشير إلى المعنى الباطن لها. ولابدّ من التأكيد على حقيقة خطيرة، وهي: لا يجوز قطعاً بأنْ نضع للقرآن معنىً باطناً بحسب رأينا وفهمنا، بل لابدّ من وجود قرائن وأدلة واضحة، أو بالإِعتماد على تفاسير النّبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) الصحيحة، لكي لا يكون وجود بطون للقرآن ذريعةً بأيدِ المنحرفين والمتطرفين وذوي الأهواء ليفسّروا القرآن بحسب ما يشتهون ويرغبون. 2 - سِرُّ التأكيد على المعاد: قلنا، إنّ من كبريات المسائل المهمّة التي يتمّ التأكيد عليها في السور المكيّة للجزء الأخير من القرآن هي مسألة "المعاد" مع تصوير حياة الإنسان في عالم البرزخ لما لهذه المسألة من أهمية وتأثير على الإنسان في حياته الدنيا، فمجرّد أنْ يحسب ويفكر الإنسان بأنّ ثمّة عالم ينتظره وفيه محاسبة دقيقة وبعدها إمّا ثواب أو عقاب، فمجرّد هذا الإِحساس كفيل لأن يدفع الإِنسان بالتفكير في مستقبله الأبدي، وأنْ يعمل على ضوء تحسبه. فهناك محكمة... لا تخفى عليها خافية، لا ظلم فيها ولا جور، لا تخطيء ولا تشتبه، ولا رشوة فيها ولا توصية، وفوق هذا وذلك فلا مجال للمتهم فيها لأنْ يكذب أو ينكر... إذن فلا سبيل للنجاة من عقاب الآخرة إلاّ بترك الذنوب والعمل وفق مقتضيات الشرع في هذه الحياة الفانية. إنّ الإيمان بوجود محكمة العدل الإلهي تدفع الإنسان لأن: يتحرك ضميره، تتيقظ نفسه من غفلتها الماكرة، تحيى فيه روحية التقوى فيه ويتحسس عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، فيبدأ بتشخيص وظائفه وتكاليفه الشرعية للقيام بها على أحسن وجه. وأساساً فإنّ شيوع الفساد في أي محيط يرجع إلى أمرين: ضعف التوجيه والمراقبة، وفقدان القوة القضائية الرادعة، فإذا خضعت أعمال الناس إلى توجيه مبرمج يقظ، بالإضافة إلى توفر القوانين القضائية الصارمة لكل من يشذ عن جادة القانون، فإنّ الفساد والإعتداء والطغيان والحال هذه يكاد ينعدم في ذلك المحيط. الحياة الدنيوية التي تفعم ببرنامج موجه إلى طريق الحق، وقوة قضائية ساعية لرضوانه جلّ شأنه، وعاملة على خدمة البشرية، تدفع الإِنسان لأنْ يدرك بوضوح مصاديق الهداية الإلهية، ويشعر لذة حياته الروحية. فالإيمان بوجود مَنْ: (لا يعزب عنه مثقال ذرة) (11)، والإيمان بحتمية "المعاد" الذي تصدقه الآية: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (12)، فهكذا الإيمان كفيل بأنْ يخلق في الإنسان حالة التقوى التي هي بمثابة مركز للإشعاع الرّباني على جميع أبعاد حياته. ﴿كَلَّا﴾ ردع على التكذيب به ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ عاقبة تكذيبهم.