وفي آخر آية من الآيات المبحوثة، يضيف: (ربّ السموات والأرض وما بينهما الرحمن).
نَعم: إنّه مالك العالم، ومدبّر ما فيه، وموجه كلّ حركاته وسكناته، إنّه الرحمن الذي شملت رحمته كلّ شيء، وهو واهب الصالحين ما وعدهم به القرآن الكريم.
وبما أنّ صفة "الرحمن" تشمل رحمة اللّه العامّة لكلّ خلقه، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ اللّه تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنّة.
وذيل الآية، يقول: (لا يملكون منه خطاباً).
ويمكن شمول "لا يملكون" جميع أهل السماوات والأرض، أو جميع المتقين والعاصين الذين يجمعون في عرصة المحشر للحساب والجزاء.
وعلى أيّ القولين... فالآية تشير إلى عدم القدرة على الإعتراض أو الردّ من قبل كلّ المخلوقات أمام محكمة العدل الإلهي، لأنّ حسابه جلّ اسمه من الدقّة والعدل واللطف ما لا يفسح المجال أمام أي اعتراض.
بل ولا يسمح في ذلك اليوم بالتشفع لأيٍّ كان إلاّ بإذن خاص منه جلّت عظمته، وهو ما تشير إليه الآية (255) من سورة البقرة: (مَن ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه).
بحثان
1 - ثواب المتقين وعقاب العاصين
يلاحظ ثمّة مقايسة بين الآيات المبحوثة وما سبقها من آيات... فقد تحدثت الآيات السابقة عن نوعين من الجزاء لكلّ من المجرمين والمؤمنين، فالآيات محل البحث تحدثت عن بعض ما للمؤمنين من ثواب ونعيم، وفيما تقدمها من آيات تحدثت عن بعض ما للمجرمين من عقوبات.
فهنا تحدثت عن "المفاز" وهناك عن "المرصاد"...وهنا تحدثت عن "حدائق وأعناباً" وهناك عن التخبط بالعذاب إلى مدّة لا متناهية "أحقاباً"...وهنا كان الحديث عن "الشراب الطهور" وهناك عن الماء الحارق "حميماً وغساقاً"...وهنا تحدثت الآيات عن عطايا ومواهب "الرحمان"، وهناك عن الجزاء العادل "جزاءً وفاقاً"...وهنا الحديث عن زيارة "النعمة" وهناك زيادة "العذاب"...والخلاصة: إنّ هذين الفريقين يقعان في قطبين متنافرين من كلّ الجهات نتيجة لما كانا يعيشانه في الحياة الدنيا من تنافر وتباعد من حيث الإيمان والعمل.
2 - أشربة الجنّة!
أوردت الآيات الشريفة أوصافاً متنوعة لأشربة الجنّة، ويظهر أنّ لشاربيها من اللذّة الروحية المعنوية ما لا يمكن وصفه أو خطّه بقلم.
فالآية (21) من سورة الدهر، تصفه بالطهور: (وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً).
والآيات (45 - 47) من سورة الصافات، تصفه بالزلال واللذّة والصفاء، وأنّه لا يؤدي لأذىً ولا يذهب بالعقول: (يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذّة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون).
والآية (رقم 5) من سورة الدهر، تصفه بأنّه مخلوط بمادة باردة ملطفة (الكافور): (يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً).
والآية (17) من سورة الدهر، تقول عنه بأنّه مخلوط بالزنجبيل: (ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً).
وجاء في الآيات المبحوثة: (وكأساً دِهاقاً) أي: زلالاً صافياً.
وفوق كلّ هذا وذاك، فمن هو الساقي... إنّه اللّه تعالى!! يسقيهم بيد قدرته وعلى بساط رحمته، تقول الآية (21) من سورة الدهر: (وسقاهم ربّهم...).
اللّهمّ! اشملنا بعفوك، واسقنا من فيض شربك يا أرحم الراحمين...
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ خبر محذوف وقرىء بالجر بدلا عن ربك ﴿الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ﴾ أي أهل السموات والأرض ﴿مِنْهُ﴾ تعالى ﴿خِطَابًا﴾ لا يقدرون أن يخاطبوه إلا بإذنه.