التّفسير
لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإِسلام، وهذه الآية تبيّن أنّ المنافقين لفرط إنحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجروا المسلمين إِلى الكفر كي لا يظلوا وحدهم كافرين: (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).
ولهذا السبب فإِنّ المنافقين أسوأ من الكفار، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين، والمنافقون يفعلون هذا الشيء ويسعون دائماً لإِفساد المعتقدات، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبداً، تقول الآية الكريمة: (فلا تتخذوا منهم أولياء...) إِلاّ إِذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.
ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير، ويثبتوا صدقهم فيه، عليهم أن يبادروا إِلى الهجرة من مركز الكفر والنفاق إِلى دار الإِسلام (أي يهاجروا من مكّة إِلى المدينة) فتقول الآية: (حتى يهاجروا في سبيل الله...) أمّا إِذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق، وإِن تظاهرهم بالإِسلام ليس إِلاّ من أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين.
وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون أن يأسروهم حيثما وجدوهم، وأن يقتلوهم إِذا استلزم الأمر، تقول الآية الكريمة: (فإِن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم).
وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول: (لا تتخذوا منهم ولياً ولا نصير).
والقرآن في هذا الحكم يؤكّد حقيقة مصيرية للمجتمع، هي أنّ حياة أي مجتمع تمرّ بمرحلة إِصلاحية لا يمكن أن تستمر بصورة سليمة مالم يتخلص من جراثيم الفساد المتمثلة بهؤلاء المنافقين أو الأعداء الذين يتظاهرون بالإِخلاص، وهم في الحقيقة عناصر مخربة هدامة تعمل في التآمر والتجسس على المجتمع ومصالحه العامّة.
والطريف هنا أنّ الإِسلام - مع إهتمامه برعاية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم ومنعه الظلم والعدوان عنهم - نراه يشدد كثيراً في التحذير من خطر المنافقين، ويرى ضرورة التعامل معهم بعنف وقسوة، ورغم تظاهرهم بالإِسلام يصرح القرآن بأسرهم، بل حتى بقتلهم إن استلزم الأمر.
وما هذا التشديد إِلاّ لأنّ هؤلاء يستطيعون ضرب الإِسلام تحت ستار الإِسلام، وهذا ما يعجز عن أدائه أي عدو آخر.
سؤال:
قديرى البعض أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتحاشى قتل المنافقين كي لا يتهمه الأعداء بأنّه يقتل أصحابه، أو أنّه لم يقتلهم حتى لا يستغل الآخرون هذا الأمر فيقتلون كل من يعادونه بدعوى أنّه منافق، فكيف يتلاءم هذا الموقف مع الآية الشريفة.
الجواب:
الحقيقة أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اتّبع هذا الأُسلوب مع منافقي المدينة الذين لم يظهروا العداء الصريح له أو للإِسلام، بينما اتّبع مع منافقي مكّة الذين جهروا بعدائهم للمسلمين وساعدوا الكفار عليهم أُسلوباً غير هذا.
﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾ تمنوا أن تكفروا ككفرهم ﴿فَتَكُونُونَ﴾ أنتم وهم ﴿سَوَاء﴾ في الكفر ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء﴾ فلا توالوهم وإن أظهروا الإيمان ﴿حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ عن الإيمان والهجرة ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ﴾ في الحل والحرم كسائر الكفرة ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)