التّفسير
المقياس الأعلى للمعرفة:
تبدأ هذه السورة بجملة "تبارك" من مادة "بركة"، ونعلم أنّ الشيء ذو بركة، عبارة عن أنّه ذو دوام وخير ونفع كامل. يقول تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً).(1)
الملفت للإنتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالق عزَّوجلّ بواسطة نزول الفرقان، يعني أنّه أنزل قرآناً فاصلا بين الحق والباطل، وهذا يدل على أن أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة - معرفة الحق من الباطل.
و هنا وقفة مهمّة أيضاً، وهي أنّ كلمة "الفرقان" وردت بمعنى "القرآن" تارةً، و تارةً بمعنى معجزات مميزة للحق من الباطل، ووردت بمعنى "التوراة" تارةً أخرى.
عن القرآن والفرقان، أهما شيئان، أو شيء واحد؟ فقال: "القرآن: جُملةُ الكتاب، والفرقان: المحكم الواجب العمل به".
ولا منافاة بين هذا القول وبين أنّ الفرقان هو جميع آيات القرآن، والمراد هو أنّ آيات القرآن المحكمات تعتبر مصداقاً أوضح وأبرز للفرقان وللتمييز بين الحق والباطل.
ولموهبة "الفرقان والمعرفة" أهمية بالغة بحيث أنّ القرآن المجيد ذكرها كمكافأة عظيمة للمتقين: (يا أيّها الذي آمنوا إنْ تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً..) (2).
نعم، فبدون التقوى لا يمكن تمييز الحق من الباطل، لأنّ الأهواء والذنوب تلقي على وجه الحق حجاباً كثيفاً، وتعمي بصر ابن آدم وبصيرته.
و على أية حال، فالقرآن المجيد هو الفرقان الأعلى.
القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في نظام حياة البشر.
القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في مسير الحياة الفردية والإجتماعية، وهو الميزان والمحك على صعيد الأفكار والعقائد، والقوانين، والأحكام، والآداب، والأخلاق.
وهذه الوقفة مهمّة أيضاً، حيث يقول تعالى (نزّل الفرقان على عبده) نعم، فمقام العبودية والإنقياد التامّين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان، ولتلقي موازين الحق والباطل.
والنكتة الأخيرة التي طرحت في هذه الآية، تبيّن أنّ هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين، الإنذار الذي نتيجته الإحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق الإنسان. وعبارة "للعالمين" كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام عالمية لا تختص بمنطقة معينة، ولا بقوم أو عنصر معينين. بل إن بعضهم قد استدل منها على خاتمية النّبي(ص) ، وذلك أن "العالمين" كما أنّها غير محدودة من حيث المكان، فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضاً، فـ "العالمين" تشمل جميع الأجيال القادمة أيضاً (فتأمل!).
﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ تكاثر خيره أو تزايد أو تعالى عن كل شيء ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد ﴿لِيَكُونَ﴾ محمد عبده أو الفرقان ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ أي الثقلين ﴿نَذِيرًا﴾ مخوفا من العذاب.