لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولابدّ الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور، فتقول... (وإنّ عليكم لحافظين) (6). وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند اللّه تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم: (كراماً كاتبين). (يعلمون ما تفعلون). و"الحافظين": هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ، كما سمّتهم الآية (17) من سورة (ق) بالرقيب العتيد: (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد)، كما وذكرتهم الآية (16) من نفس السورة: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد). وثمّة آيات قرآنية اُخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في حياته. إنّ نظر وشهادة اللّه عزّوجلّ على أعمال الإنسان، ممّا لا شك فيه، فهو الناظر لما يبدر من الإنسان قبل أيَّ أحد، وأدق من كلِّ شيء، ولكنّه سبحانه ولزيادة التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسؤولية ما يؤديه، فقد وضع مراقبين يشهدون على الإنسان يوم الحساب، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام. وقد فصّلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كلِّ جهة، وذلك ذيل الآيتين (20 و21) من سورة فصّلت، ونوردها هنا إجمالاً، وهي على سبعة أقسام. أوّلاً: ذات اللّه المقدّسة، كما في قوله تعالى: (ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه) (7). ثانياً: الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، بدلالة قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) (8). ثالثاً: أعضاء بدن الإنسان، بدلالة قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) (9). رابعاً: جلد الإنسان وسمعه وبصره، بدلالة قوله تعالى: (حتّى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) (10). خامساً: الملائكة، بدلالة قوله تعالى: (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد) (11)، وبدلالة الآية المبحوثة أيضاً. سادساً: الأرض... المكان الذي يعيش عليه الإنسان، بدلالة قوله تعالى: (يومئذ تُحدِّثُ أخبارها) (12). سابعاً: الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان، بدلالة ما روي عن الإمام علي (ع) في وقوله: "ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلاّ قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد" (13). وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي: إنّ شخصاً سأل الإمام الصادق (ع) عن علّة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أنّ اللّه عزّوجلّ عالم السرّ وأخفى؟ فقال الإمام (ع): "اسعبدهم بذلك، وجعلهم شهوداً على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة اللّه مواظبة، وعن معصيته أشدّ انقباضاً، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ، فيقول ربّي يراني، وحفظتي عليّ بذلك يشهد، وأنّ برأفته ولطفه وكّلهم بعباده، يذبّون عنهم مردة الشياطين، وهوام الأرض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن اللّه، إلى أن يجيء أمر اللّه عزّوجلّ" (14). ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف أُخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان. (وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (رقم 1) من سورة فاطر - فراجع). وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنّهم "كرام"، ليكون الإنسان أكثر دقّة في مراقبة نفسه وأعماله، لأنّ الناظر كلّما كان ذا شأن كبير، تحفظ الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه. وعلّة ذكر "كاتبين" للتأكيد على إنّهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون تسجيل ذلك بدقّة متناهية. وذكر: (يعلمون ما تفعلون) تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام، واستناداً إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه. فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان، وتشير إلى كونه مختاراً، وإلاّ فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للحذير والإنذار من معنى؟ وتشير أيضاً إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء والإلهي. ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي، وتكفيه الإشارات عظةً ليزكي ويعرف مسؤوليته ويعمل بدروه. بحث كتبة صحائف الأعمال: لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان، والكاتبين لها بخيرها وشرّها، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك... ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن. 1 - سؤال عبد اللّه بن موسى بن جعفر (ع) لأبيه عن الملكين... هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أنْ يفعله، أو الحسنة؟ فقال الإمام (ع): "ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟". قال: لا. قال: "إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نَفسه طيّب الريح، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال: قم فإنّه قد همّ بالحسنة، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، فأثبتها له، وإذا همّ بالسيئة خرج نَفَسه منتن الريح، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين، قف فإنّه قد همّ بالسيئة، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، وأثبتها عليه" (15). فالرواية تبيّن ما للنيّة من أثر على كامل وجود الإنسان، وأنّ الملائكة يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنّهم مطلعين على فعل الواقع قبل وقوعه، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدّاً، ولا يفوتهم شيئاً إلاّ وكتبوه في صحيفته. والرواية أيضاً، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف: "إنّما الأعمال بالنيات" للتأكيد على ما لنيّة الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السيء. وتبيّن أيضاً، بأنّ وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل، فلسانه القلم وريقه المداد! 2 - وثمّة روايات تؤكّد على أنّ الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة دون النوايا السيئة، ومنها: "إنّ تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته مَن هَمَّ بحسنة ولم ويعملها كتبت له حسنة، ومَنْ هَمَّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشراً، ومَن هَمَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب له، ومَن هَمَّ بها وعملها كتبت عليه سيئة".(16) فالرواية تبيّن منتهى اللطف الرّباني الفصل الإلهي على الإنسان، وتحث الإنسان على الأعمال الصالحة... فنيّته السيئة لا تسجل عليه، وفعله السيء يكتب عليه وفق موازين العدل، في حين أنّ نيّته الحسنة وفعله الحسن يسجلان له وفق اللطف والتفضل الإلهي... 3 - وروي عن رسول اللّه (ص)، أنّه قال: "يهمُّ العبد بالحسنة فيعملها، فإنْ هو لم يعملها كتب اللّه له حسنة بحسن نيّته، وإنْ هو عملها كتب اللّه له عشراً، ويهمُّ بالسيئة أنْ يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإنْ عملها اُجّل سبع ساعات، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أنْ يتبعها بحسنة تمحوها، فإن اللّه عزّوجلّ يقول: (إنّ الحسنات يذهبن الشيئات)، أو الإستفغار فإنّ هو قال: استغفر اللّه الذي لا إله إلاّ هو، عالم الغيب والشهادة، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه، لم يكتب عليه شيء، وإنْ مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: اُكتب على الشقي المحروم" (17). 4 - وروي عن الإمام الصادق (ع): "إنّ المؤمنين إذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض: تنحوا عنهما فإنّ لهما سرّاً وقد ستر اللّه عليهما"! (18) 5 - وفي خطبة لأمير المؤمنين (ع)، قال فيها بعد أنْ دعى الناس فيها لتقوى اللّه: "اعلموا عباد اللّه، إنّ عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم، وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج "أي إحكام)، وإنّ غداً من اليوم قريب" (19). ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ من خير وشر.