وتقول الآية التالية: (ثمّ يقال هذا الذي كنتم به تكذّبون).
يقال لهم ذلك توبيخاً ولوماً لزيادة تعذيبهم روحياً، وهو ما ينتظر كلُّ من عاند الحق وتخبط متاهات الضلال.
ملاحظتان:
1 - لِمَ كانت الذنوب صدأ القلب؟!
تناول القرآن الكريم في مواضع متعددة ما للذنوب من تأثيرات سلبية على إظلام القلب وتلويثه، فقد جاء في الآية (35) من سورة المؤمن: (كذلك يطبع اللّه على قلب كلّ متكبر جبّار).
وقال في موضع آخر: (ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (4).
وجاء في الآية (46) من سورة الحج: (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور).
نعم... فأسوأ ما للإستمرار في الذنوب من آثار: إسوداد القلب، فقدان نور العلم، موت قدرة التشخيص بين ما هو حق وباطل.
فآثار ما تقترفه الجوارح من ذنوب تصل إلى القلب وتحوله إلى مستنقع آسن، وعندها لا يقوى الإنسان على تشخيص طريق خلاصه، فيهوى في حفر الضلالة التي توصله لأدنى دركات الإنحطاط، وتكون النتيجة أن يرمي ذلك الإنسان مفتاح سعادته بنفسه من يده، ولا يجني حينها إلاّ الخيبة والخسران.
وروي عن النّبي (ص) أنه قال: "كثرة الذنوب مفسدة للقلب". (5)
وفي حديث آخر: "إنّ العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرين الذي ذكر اللّه في القرآن: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) (6).
وروي الحديث (بتفاوت يسير) عن الإمام الباقر (ع) (7).
وعن رسول اللّه (ص) أنّه قال: "تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب، إنّ القلوب لترين كما يرين السيف، وجلائه الحديث". (8)
ومن الثابت في علم النفس، أنّ للأعمال الأثر الكبير على نفسية وروحية الإنسان، فنفسية الإنسان تتكيف تدريجياً على ضوء تلك الآثار، وبالنتيجة سينعكس ذلك على فكر وآراء الإنسان.
وينبغي التنويه إلى: أنّ روح الإنسان تتعامل طردياً مع الذنوب، فمع استمرار الذنوب تغوص الروح في أعماق الظلام لحظة بلحظة، حتى تصل إلى درجة يبدأ الإنسان يرى سيئاته حسنات، وربّما يتفاخر بها! وعندها... ستغلق أمامه أبواب العودة: (إلاّ أن يشاء اللّه)، وهذه الحال من أخطر ما تعرض للإنسان في حياته الدنيوية من حالات.
2 - حجاب الروح!
حاول كثير من المفسّرين أن يجعل للآية: (كلاّ إنّهم عن ربّهم لمحجوبون) تقديراً، واحتاروا بين أن يجعلوا التقدير (الحجاب عن رحمة اللّه)، أم الحجاب عن إحسانه، أم كرامته، أم ثوابه...
ولكنّ ظاهر الآية لا يبدو فيه الإحتياج لتقدير، فإنّهم سيحجبون عن ربّهم على الحقيقة، بينما سينعم الصالحون الطاهرون بقرب اللّه وجواره ليفعموا بلذيذ لقاء الحبيب، والرؤية الباطنية لهذا الحبيب الأمل، بينما الكفرة الفجرة ليس لهم من هذا الفيض العظيم والنعمة البالغة من شيء.
وبعض المؤمنين المخلصين يتنعمون بهذا اللقاء حتى في حياتهم الدنيا، في حين لا يجني المجرمون المعمية قلوبهم سوى الحرمان...
فهؤلاء في حضور دائم، واُولئك في ظلام وابتعاد!
فلمناجاة المؤمنين مع بارئهم حلاوة لا توصف، وأمّا مَن اسودت قلوبهم فتراهم غرقى في بحر ذنوبهم وتتقاذفهم أمواج الشقاء، (أعاذنا اللّه من ذلك).
ويقول أمير المؤمنين (ع) في دعاء كميل: "... هبني صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك".
(ثم يقال) يقول الخزنة توبيخا (هذا) أي الكتاب (الذي كنتم به تكذبون).