لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتأتي الآية الاُخرى لتبيّن صفتين اُخرتين للعزيز الحميد: (الذي له ملك السماوات والأرض واللّه على كلّ شيء شهيد). فالصفات الأربعة المذكورة، تمثل رمز معبوديته جلّ وعلا، فالعزيز والحميد... ذو الكمال المطلق، ومالك السماوات والأرض والشهيد على كلّ شيء... أحقُّ أن يُعبد وحده دون غيره، لا شريك له. إضافة إلى كونها بشارة للمؤمنين، بحضور اللّه سبحانه وتعالى ورؤيته لصبرهم وثباتهم على الإيمان، فيدفع فيهم الحيوية والنشاط والقوّة. ومن جهة اُخرى تهديد للكفار، وإفهامهم بأن عدم منع ارتكاب مثل هذه الجرائم الخبيثة، ليس لعجز أو ضعف منه جلّ شأنه، وإنّما ترك العباد يفعلون ما يرونه هم، امتحاناً لهم، وسيريهم في عاقبة أمرهم جزاء ما فعلوا، وما للظالمين إلاّ العذاب المهين. بحثان: 1 - من هم أصحاب الاُخدود؟ قلنا إنّ "الاُخدود" هو الشق العظيم في الأرض، أو الخندق... وهو في الآية إشارة إلى تلك الخنادق التي ملأها الكفار ناراً ليردعوا فيها المؤمنين بالتنازل عن إيمانهم والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال. ولكن... متى حدث ذلك؟ في أيّ قوم؟ وهل حدث مرّة واحدة أم لمرّات؟ في منطقة أم مناطق؟ جرى بين المفسّرين والمؤرخين مخاض طويل بخصوص الإجابة عن هذه الأسئلة. والمشهور: إنّ الآية قد اشارت إلى قصة (ذو نواس)، وهو آخر ملوك "حِميَر" (7) في أرض "اليمن". وكان "ذو نواس" قد تهوّد، واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمّى نفسه (يوسف)، وأقام على ذلك حيناً من الدهر، ثمّ اُخبر أنّ "بنجران" (شمال اليمن) بقايا قوم على دين النصرانية، وكانوا على دين عيسى (ع) وحكم الإنجيل، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية، ويدخلهم فيها، فسار حتى قدم نجران، فجمع مَن كان بها على دين النصرانية، ثمّ عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم وحرص الحرص كلّه، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها، واختاروا القتل، فاتخذ لهم اُخدوداً وجمع فيه الحطب، وأشعل فيه النّار، فمنهم مَن اُحرق بالنّار، ومنهم مَن قُتل بالسيف، ومُثّل بهم كلّ مثلة، فبلغ عدد مَن قُتل واُحرق بالنّار عشرين ألفاً. (8) وأضاف بعض آخر: إنّ رجلاً من بني نصارى نجران تمكّن من الهرب، فالتحق بالروم وشكا ما فعل (ذو نواس) إلى قيصر. فقال قيصر: إن أرضكم بعيدة، ولكنّي سأكتب كتاباً إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم. ثمّ كتب رسالته إلى ملك الحبشة، وطلب منه الإنتقام لدماء المسيحيين التي اُريقت في نجران، فلمّا قرأ الرسالة تأثّر جدّاً، وعقد العزم على الإنتقام لدماء شهداء نجران. فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش (ذو نواس)، فهزمته بعد معركة طاحنة، وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة. (9) وذكر بعض المفسّرين: إنّ طول ذلك الخندق كان أربعين ذراعاً، وعرضه اثني عشر ذراع، (وكلّ ذراع يقرب من نصف متر، وأحياناً يقصد به ما يقرب من متر كامل). وقيل: إنّها كانت سبعة أخاديد، وكلّ منها بالحجم الذي ذكرناه. (10) وذكرت القصّة في كتب تاريخية وتفسيرية كثيرة، بتفاصيل متفاوتة، منها: ما ذكره المفسّر الكبير الطبرسي في (مجمع البيان)، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره، والفخر الرازي في (تفسيره الكبير)، والآلوسي في (روح البيان)، والقرطبي في تفسيره، وكذلك ابن هشام في الجزء الأوّل من كتاب (السيرة) ص35... وغيرهم كذلك. وقد تبيّن ممّا ذكرناه بأن العذاب الإلهي قد أصاب اُولئك الذين قاموا بتعذيب المؤمنين، وانتقم منهم في دنياهم جراء ما هدروا من دماء زكية بريئة، وأنّ عذاب نار الآخرة لفي انتظارهم. وأوّل من أوجد المحارق البشرية في التاريخ هم اليهود، وسرت هذه الممارسة الخبيثة على أيدي الطواغيت المجرمين، حتى شملت اليهود أنفسهم، كما حدث في ألمانيا النّازية حينما اُحرق جمع كبير من اليهود في محارق هتلر كما هو المشهور، فذاقوا "عذاب الحريق" في دنياهم قبل آخرتهم. كما أصاب الخزي والعذاب (ذو نواس اليهودي) وهو مؤسس هذا الاُسلوب القذر من الجريمة. ذكرنا ما اشتهر بين أرباب التاريخ والتّفسير من قصّة أصحاب الاُخدود، وثمّة روايات تذكر بأنّ هذه الجريمة البشعة ما اقتصرت على أهل اليمن فقط ولم تقف عند عصر (ذو نواس)، حتى قيل عشرة أقوال في ذلك. وروي عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "إنّهم كانوا مجوس، أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، فتناول ملكهم الخمرة فوقع على اُخته، وبعد أن أفاق ندم، فأعلن حِلية زواج الاُخت، فلم يقبل النّاس، فهددهم فلم يقبلوا، فخدّ لهم الاُخدود، وأوقد فيه النيران، وعرض أهل مملكته على ذلك، فمَن أبى قذفه في النّار، ومَن أجاب خلّى سبيله" (11). هذا في أصحاب فارس... أمّا أصحاب اُخدود الشام، فهم قوم مؤمنون أحرقهم (آنطياخوس) (12). وقيل أيضاً: إنّ هذه الواقعة تعود لاصحاب نبيّ اللّه دانيال من بني إسرائيل، وقد اُشير إلى ذلك في كتاب دانيال من التوراة. واعتبر الثعلبي: إنّهم هم الذين اُحرقوا في اُخدود فارس (13) ولا يبعد انطباق قصة "أصحاب الاُخدود" على كلّ ما ذكر، وإنّ كان المشهور منها قصّة (ذو نواس) في أرض اليمن. 2 - الإيمان الثابت في قصص الأولين وما يجري عند الآخرين، ثمّة وقائع رائعة في الثبات على الإيمان فقد تحمل البعض الحرق في النّار وأشدّ من ذلك على أن يترك طريق الحقّ أو العدول عن دينه. وها هي "آسية" زوجة فرعون شاخصة بما تحملت من عذاب بسبب تصديقها بنبيّ اللّه موسى (ع) وإيمانها برسالته، حتى انتهى بها المطاف للإرتواء من كأس الشهادة. وفي حديث عن الإمام علي (ع) أنّه قال: "إنّ اللّه بعث رجلاً حبشياً نبيّاً، وهم حبشية، فكذّبوه فقاتلهم، فقتلوا أصحابه، فأسروه وأسروا أصحابه، ثمّ بنوا له حيراً، ثمّ ملأوه ناراً، ثمّ جمعوا النّاس فقالوا: مَن كان على ديننا وأمرنا فليعتزل، ومَن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النّار، فجعل أصحابه يتهافتون في النّار، فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر، فلمّا هجمت هابت ورقت على ابنها، فنادى الصبي: لا تهابي، وارميني ونفسك في النّار، فإنّ هذا واللّه في اللّه قليل فرمت بنفسها في النّار وصبيها، وكان ممن تكلم في المهد" (14). ويفهم من هذه الرّواية، إنّ في الحبشة قسم رابع قد انطبقت عليهم قصّة "أصحاب الاُخدود". ومن تاريخنا... هناك قصّة عمار بن ياسر وأبويه وأمثالهم، وأهم من كلّ ذلك ما جرى للحسين (ع) وأصحابه في ميدان التضحية والفداء (كربلاء)، وكيف أنّهم قد تسابقوا على شرف نيل وسام الشهادة، كما هو معروف في التاريخ. وها هو عصرنا يرينا الكثير من صور التضحية والفداء في سبيل إعلاء كلمة الحقّ وحفظ الدين القويم. وينبغي القول هنا: إنّ بقاء الدين الإلهي (على مرّ العصور) مرتهن على ما تقدّم في سبيله من تضحيات مقدسة. ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فهو المستحق لأن يؤمن به ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ فيعلم فعلهم ويجازيهم به.