لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
هنا يوجه اللّه تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول: ( فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقوُلوُنَ ). لأنّ الأمر هكذا، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم: (فما يستطيعون صرفاً ولا نصراً، ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً). لا شك أنّ "الظلم" له مفهوم واسع، ومع أنّ موضوع البحث في الآية هو "الشرك" الذي هو أحد المصاديق الجلية للظلم، إلاّ أنّه لا يقدح بعمومية المفهوم. و الملفت للنظر أن "من يظلم" جاءت بصيغة الفعل المضارع، وهذا يدل على أن القسم الأوّل من البحث وأن كان مرتبطاً بمناقشات البعث، لكن الجملة الأخيرة خطاب لهم في الدنيا، لعل قلوب المشركين تصبح مستعدة للتقبل على أثر سماعها (محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة) ، فيحول الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم: (ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً).(1) مسائل مهمة: 1 - من هم المقصودون بالمعبودين هنا!؟ في الإجابة على هذا السؤال، هناك تفسيران بين المفسّرين المعروفين: أوّلا: أن يكون المقصود بالمعبودين إنساناً (مثل المسيح) أو شيطاناً (مثل الجن) أو (الملائكة) ، حيث أن كلّ واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبوداً لهم. ولأنّهم أهل عقل وشعور وإدراك، فيمكنهم أن يكونوا موضع الإستنطاق والمحاسبة، ولإتمام الحجة، ولإثبات كذب المشركين الذين يقولون: إنّ هؤلاء دعونا لعبادتهم! فهم يسألون عمّا إذا كان هذا الإدعاء صحيحاً؟ ولكنّهم يكذبون ادعاء المشركين بصراحة! التّفسير الثّاني: الذي ذكره جمع من المفسّرين هو أنّ الله يمنح الأصنام في ذلك اليوم نوعاً من الحياة والإدراك والشعور، بالشكل الذي تستطيع فيه أن تكون موضع المحاسبة، لينطقوا بالجواب اللازم: إلهنا، نحن ما أضللنا هؤلاء، بل هم أنفسهم ضلوا بسبب انغماسهم في الشهوات والغرور. و هناك الإحتمال آخر، وهو أنّ المقصود يشمل جميع المعبودين، سواء كانوا ذوو عقل وشعور يخبرون بألسنتهم عن الوقائع، أام لم يكونوا من أهل العقل والشعور، حيث يعكسون الحقيقة أيضاً، بلسان حالهم. ولكن القرائن الموجودة في الآية تتفق أكثر مع التّفسير الأوّل، ذلك لأنّ الأفعال والضمائر تدل جميعها على أن طرف المحاورة هم أصحاب عقل وشعور، وهذا يتناسب مع معبودين كالمسيح والملائكة وأمثالهم. إضافة إلى أنّ قوله تعالى (فقد كذبوكم...) يُظهر أن المشركين قد ادّعوا من قبل أن هؤلاء المعبودين قد أضلونا ودعونا لعبادتهم، وبعيد أن يكون المشركون قد ادعوا هذا بالنسبة إلى الأصنام الحجرية والخشبية، لأنّهم - كما ورد في قصة إبراهيم - كانوا على يقين بأنّ الأصنام لا تتكلم (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) (2). في حين أنّنا نقرأ مثلاً بالنسبة إلى المسيح(ع) في الآية (116) من سورة المائدة: (أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمي إلهين من دون الله) ؟! ومن المسلّم أنّ ادعاء المشركين وعبدة الأصنام كان واهياً وبلا أساس، فأُولئك لم يدعوهم إلى عبادة أنفسهم. الملفت هو أن المعبودين لم يقولوا في الجواب: إلهنا، ما دعوناهم إلى عبادة أنفسنا، بل يقولون: نحن ما اتّخذنا لأنفسنا غيرك معبوداً، يعني في الوقت الذي نحن نعبدك وحدك، فمن الأُولى أنّنا لم ندعهم إلى أحد غيرك، خاصّة وأن هذا الكلام يقترن مع (سبحانك) ومع (ماكان ينبغي لنا) التي تكشف عن غاية أدبهم، وتأكيدهم على التوحيد. 2 - دافع الإنحراف عن أصل التوحيد المهم هو أنّ المعبودين يعدّون العامل الأصلي لانحراف هذا الفريق من المشركين هو (الحياة المرفهة) لهم، ويقولون، إلهنا، متّعتَ هؤلاء وآباءَهم من نعم هذه الحياة، وهذا هو بالذات كان سبب نسيانهم، فبدلا من أن يعرفوا واهب هذه النعم فيشكرونه ويطيعونه، توغلوا في دوامة الغفلة والغرور. فالحياة المرفهة لجماعة ضيقةِ الأفق، ضعيفة الإيمان، تبعث على الغرور من جهة، ذلك لأنّهم في الوقت الذي ينالون النعم الكثيرة، ينسون أنفسهم وينسون الله، حتى أنّ فرعون كان يطبّل أحياناً (أنا الله). ومن جهة أُخرى، فإنّ هؤلاء الأفراد يميلون إلى التحرر من كل القيود التي تعيقهم في ملذّاتهم من قبيل الحلال والحرام، والمشروع واللامشروع وتمنعهم من الوصول إلى أهدافهم، ولهذها فهم لا يريدون أن يخضعوا أمام القوانين والمقررات الدينية، ولا أن يقبلوا بيوم الحساب والجزاء. و هكذا نجد أنّ أتباع دين الله وتعليمات الأنبياء قليلٌ في أوساط المرفهين دائماً ولكن المستضعفين هم الأتباع الصامدون والمحبّون الأوفياء للدين والمذهب. إنّ هذا الكلام له استثناءات في كلا الطرفين قطعاً، ولكن أكثرية كلّ من الفريقين هم كما قلنا. وممّا تتضمنه الآية أعلاه، أنّها لم تركز على رفاهية حياتهم فقط، بل ركزت على رفاهية حياة آبائهم أيضاً، ذلك لأنّ الإنسان حينما ينشأ على الدلال والنعمة فإنه سوف يرى فارقاً وامتيازاً بينه وبين الآخرين، ولن يكون مستعداً لفقد المنافع المادية والحياة المرفهة بسهولة. في حين أن التقيد بأمر الله، وبتعاليم الدين تحتاج إلى الإيثار، وأحياناً إلى الهجرة، وتحتاج حتى إلى الجهاد والشهادة، وأحياناً إلى التعاطي مع أنواع المحروميات، وعدم التسليم للعدو، وهذه الأُمور نادراً ما تتوافق مع مزاج المرفهين، إلاّ إذا كانت نفوسهم أرفع من حياتهم المادية، فإذا توفرت يوماً ما شكروا الله، وإلاّ فلن يتزلزلوا ولن ينزعجوا، وبعبارة أُخرى: إنّهم حاكمون على حياتهم المادية غير محكومين لها، أمراء عليها لا أسارى عندها. و يستفاد أيضاً من التوضيح أنّ المقصود من قوله تعالى (نسوا الذكر) نسيان ذكر الله، حيث ورد مكان ذلك في الآية (19) من سورة الحشر (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أو نسيان يوم القيامة ومحكمة العدل الإلهي، كما جاء في الآية (26) سورة ص (لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) أو نسيان كل منهما، وجميع التعاليم الإلهية. 3 - كلمة "بور". "بور" من مادة "بوار" وهي في الأصل بمعنى شدّة كساد الشيء، ولأنّ شدّة الكساد تبعث على الفساد، كما جاء في المثل العربي "كسد حتى فسد"، فهذه الكلمة بمعنى الفساد، ثمّ أُطلقت بعد هذا على الهلاك، ولهذا يقولون للأرض الخالية من الشجر والورد والنبات، والتي هي في الحقيقة فاسدة وميتة كلمة "بائر". وعلى هذا فإنّ قوله تعالى: (كانوا قوماً بوراً) إشارة إلى أنّ هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة المادية المرفهة، ونسيانهم الله واليوم الآخر، صاروا إلى الفساد والهلكة، وصارت أراضي قلوبهم كالصحراء جافة وبائرة، وأُخليت من أزاهير ملكات القيم الإنسانية، وفواكه الفضيلة والحياة المعنوية. مطالعة حال الأُمم الغرقى في الدلال والنعمة اليوم، الغافلة عن الله وعن الخلق، توضح عمق معنى هذه الآية في كيفية غرق هذه الأُمم في بحر الفساد الأخلاقي، وكيف اجتثت الفضائل الإنسانية من أرض وجودهم البائرة.(3) ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ﴾ في قولكم إنهم آلهة ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ﴾ أي آلهتكم ﴿صَرْفًا﴾ دفعا للعذاب عنكم ﴿وَلَا نَصْرًا﴾ منعا لكم منه ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ﴾ أيها المكلفون بشرك أو فسق ﴿نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ وهو النار ما لم يتب أو يعف عن الفسق.