التّفسير
الإدعاءات الكبيرة:
قلنا أنّ المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فكانوا يقولون تارةً: لماذا يحتاج الرّسول إلى الطعام ويمشي في الأسواق؟ حيث قرأنا الإجابة عليها في الآيات السابقة.
الآيات الحالية، تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها، فيقول تعالى أوّلا: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا).
فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النّبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا. لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده، ولا نراه نحن، فهذا مالا يمكن القبول به، ما المانع من أن يظهر الملك فيؤكّد صحة نبوة الرّسول؟ أو أن يسمعنا بعضاً من الوحي!؟ أو أن نرى ربّنا بأعيننا حتى لا يبقى عندنا مكان لأي شك أو شبهة!؟
هذه هي الأسئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمد(ص).
المهم هو أن القرآن يصنف هؤلاء المتعللين بالذرائع تحت عنوان (لا يرجون لقاءنا) ، حيث يدل على أنّ منبع هذه الأقوال الواهية هو عدم الإيمان بالآخرة، وعدم القبول بالمسؤولية أمام الله.
في الآية (السابعة) من سورة الحجر نقرأ أيضاً شبيهاً لهذا القول، حيث قالوا (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) وقرأنا أيضاً في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون: (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).
في حين أن من حق أي إنسان لإثبات قضية ما، أن يطالب بالدليل فقط. أمّا نوع الدليل، فمن المسلّم أنّه لا فرق فيه، في الوقت الذي أثبت رسول الله(ص) بإظهار المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه - حقانية دعوته بوضوح، إذن فما معنى هذه الذرائع؟
وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوة النّبي، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك، حيث ورد شرحه في سورة الأعراف الآية 143 .
لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً).
"العتو" على وزن "غلو"، بمعنى الإمتناع عن الطاعة، والتمرد على الأمر، مصحوباً بالعناد واللجاجة.
و تعبير "في أنفسهم" من الممكن أن يكون بمعنى: أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.
في عصرنا وزماننا أيضاً، يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين، فيقولون: مادمنا لا نرى الله في مختبراتنا، ولا نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة، فلن نصدّق! بوجودهما ومنبع الإثنين واحد وهوا الإستكبار والعتو.
و من حيث الأصل، فإنّ جميع الأشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة فقط، يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني، فكلّ الماديين داخلون في هذا الصنف، في حين أنّ الحواس لا تدرك إلاّ جزءً ضئيلا لا يذكر من مادة هذا العالم.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ﴾ لا يأملون أو لا يخافون ﴿لِقَاءنَا﴾ أي جزاءه ﴿لَوْلَا﴾ هلا ﴿أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾ فيخبروننا بصدق محمد فيكونون رسلنا إلينا ﴿أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ فيأمرنا بتصديقه واتباعه ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ أظهروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر في قلوبهم واعتقدوه ﴿وَعَتَوْ﴾ وأفرطوا في الظلم ﴿عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ بالغا الغاية.