لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النزول ذكروا أنّ "المقيس بن صبابة الكناني" كان قد وجد قاتل أخيه "هشام" في محلة بني النجار، وأخبر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الأمر، فبعثه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع "قيس بن هلال المهري" إِلى زعماء بني النجار يأمرهم أن يسلموا قاتل "هشام" إِلى أخيه "المقيس" وإِن لم يكن لهم علم به أو بمكانه فليدفعوا إِلى "المقيس" دية أخيه القتيل، فدفع بنو النجار الدية لعدم علمهم بمكان القاتل، فأخذ "المقيس" الدية وتوجه إِلى المدينة مع "قيس بن هلال المهري" إِلاّ أنه في الطريق راودته نعرة من نعرات الجاهلية، فظن أنه قد جلب على نفسه العار بقبوله المال بدل دم أخيه، فعمد إِلى قتل رفيق سفره، أي قيس بن هلال الذي كان من قبيلة بني النجار، انتقاماً لدم أخيه على حسب ظنّه، ثمّ هرب "المقيس" إِلى مكّة وارتد عن إِسلامه، فاستباح النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دم هذا القاتل، أي "المقيس" لخيانته، وقد نزلت هذه الآية في هذه المناسبة وهي تبيّن عقوبة مرتكب القتل العمد. التّفسير عقوبة القتل العمد: لقد بيّنت الآية السابقة عقوبة - أو غرامة - القتل الناتج عن الخطأ، وجاءت الآية الأخيرة عقوبة القتل عن عمد وسبق إِصرار، في حالة إِذا كان القتيل من المؤمنين، وبما أن جريمة قتل الإِنسان من أعظم وأكبر الجرائم وأخطر الذنوب، وان التهاون في مكافحة مثل هذه الجريمة يهدد أمن المجتمع وسلامة أفراده، الأمن الذي يعتبر من أهم متطلبات المجتمع السليم، لذلك فإِنّ القرآن الكريم قد تناول هذه القضية في آيات مختلفة بأهمية بالغة، حتى أنّه اعتبر قتل النفس يالواحدة قت للناس جميعاً، إلاّ أن يكون القتل عقاباً لقتل مثله أو عقاباً لجريمة الإفساد في الأرض حيث يقول القرآن في هذا المجال: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً)(1). وقد قررت الآية - موضوع البحث - أربع عقوبات أُخروية لمرتكب القتل العمد، وعقوبة أُخرى دنيوية هي القصاص، والعقوبات الأخرية هي: 1 - الخلود والبقاء الأبدي في نار جهنم، حيث تقول الآية: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها). 2 - احاطة غضب الله وسخطه بالقاتل: (وغضب الله عليه...). 3 - الحرمان من رحمة الله: (ولعنه). 4 - العذاب العظيم الذي ينتظره يوم القيامة: (وأعدّ له عذاباً عظيماً)والملاحظ هنا أن العقاب الأخروي الذي خصصه الله للقاتل في حالة العمد، هو أشدّ أنواع العذاب والعقاب بحيث لم يذكر القرآن عقاباً أشدّ منه في مجال آخر أو لذنب آخر. أمّا العقاب الدنيوي الذي وردت تفاصيله في الآية (179) من سورة البقرة، فهو القصاص، وقد تطرقنا إِليه لدى تفسير هذه الآية في الجزء الأوّل من كتابنا هذا. جريمة القتل العمد والعقاب الأبدي: يرد سؤال في هذا المجال، وهو أن الخلود في العذاب قد ورد بالنسبة إِلى من يموت كافراً، بينما قد يكون مرتكب جريمة القتل العمد مؤمناً، كما يحتمل أن يندم على ما ارتكبه من إثم ويتوب عن ذلك في الدنيا، ويسعى إِلى تعويض وتلافي ما حصل بسبب جريمته، فكيف إِذن يستحق مثل هذا الإِنسان عذاباً أبدياً وعقاباً يخلد فيه؟ إِنّ جواب هذا السؤل يشتمل على ثلاث حالات هي: 1 - قد يكون المراد بقتل المؤمن - الوارد في الآية موضوع البحث - هو القتل بسبب إِيمان الشخص، أي استباحة دم المؤمن، وواضح من هذا إِنّ الذي يعمد إِلى إرتكاب جريمة قتل كهذه إنما هو كافر عديم الإِيمان، وإِلا كيف يمكن لمؤمن أن يستبيح دم أخيه المؤمن، وبناء على هذا يستحق القاتل الخلود في النار ويستحق العذاب والعقاب المؤبد، وقد نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) حديث بهذا الفحوى(2). 2 - كما يحتمل أن يموت مرتكب جريمة القتل العمد مسلوب الإِيمان بسبب تعمده قتل إِنسان مؤمن بريء، فلا يحظى بفرصة للتوبة عن جريمته، فينال في الآخرة العذاب العظيم المؤبد. 3 - ويمكن أيضاً - أن يكون المراد بعبارة (الخلود" الواردة في الآية هو العذاب الذي يستمر لآماد طويلة وليس العذاب المؤبد. ويمكن أن يطرح سؤال آخر - في هذا المجال - وهو هل أنّ جريمة القتل العمد قابلة للتوبة؟! لقد ردّ جمع من المفسّرين بالنفي صريحاً على هذا السؤال، وقالوا: أن هذه الجريمة التي ورد ذكرها في الآية موضوع البحث غير قابلة للتوبة مطلقاً، حيث أشارت الروايات الواردة في هذا الأمر إِلى ذلك، فقد صرحت الروايات بأنّ لا توبة لقاتل المؤمن عمداً. ولكن الذي نستنتجه من روح التعاليم الإِسلامية، وروايات الأئمّة(عليهم السلام)، وغيرهم من علماء الدين الكبار، وكذلك من فلسفة التوبة القائمة على أساس التربية والوقاية من الوقوع في الذنوب والخطايا في مستقبل الفرد المسلم... المستخلص من ذلك كله هو أنه لا يوجد ذنب غير قابل للتوبة، لكن التوبة من بعض الذنوب تكون مقيدة بشروط قاسية جداً يصعب بل يستحيل أحياناً على الفرد تحقيقها. والدليل على هذا الأمر هو قول القرآن الكريم: (إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(3). وقد قلنا في تفسير هذه الآية: إِنّها وردت في شأن العفو عن الذنوب بواسطة الشفاعة وما شاكل ذلك، ولكن المعروف أنّه حتى الشرك - ذاته - يعتبر من الجرائم والذنوب القابلة للتوبة، إِذا تخلى الإِنسان عنه وعاد فآمن بالله الواحد الأحد وأسلم وجهه لله، كما حصل للجاهليين الذين تخلوا عن شركهم وقبلوا الإِسلام وتابوا إِلى الله فعفا عنهم وغفرلهم ذنوبهم السابقة. ويتبيّن من هذا العرض الموجز أنّ كل الذنوب - حتى الشرك - قابلة للتوبة، وتؤكد على ذلك الآيتان (53 و54) من سورة الزمر حيث يقول تعالى: (إِنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إِنّه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إِلى ربّكم وأسلموا له). وقد ذكر بعض المفسّرين أن الآيات التي تتحدث عن غفران جميع الذنوب هي آيات عامّة قابلة للتخصيص - ولكن لا يمكن الحكم بصحة هذا القول، لأنه يتناقض ومنطق هذه الآية التي اعتبرت التوبة نعمة ومنة من الله على المذنبين، وأكدت ذلك بالقرائن، لذلك لا يمكن تخصيص هذه الآيات، فهي - كما في الإِصطلاح - تأبى التخصيص. إِضافة إِلى ذلك كلّه فقد يحتمل أن يلجأ مرتكب القتل العمد إِلى التوبة، ويخلص الطاعة لله في بقية عمره، ويتجنب إرتكاب الذنوب ولا يعصي الله بعد ذلك، ولا يعمد إِلى ارتكاب جريمة قتل مشابهة، فهل يصح أن ييأس التائب - في مثل هذه الحالة - من رحمة الله وعفوه ومغفرته؟ وهل يجوز القول بأن هذا يالشخص مع توبته وندمه وسيبقى مشمو بعذاب الله المؤبد؟ إِن القول برفض توبة إِنسان كهذا يكون مخالفاً لروح التعاليم الدينية السامية التي جاء بها الأنبياء لتربية البشر وهدايتهم في جميع مراحل التاريخ. والذي نلاحظه في تاريخنا الإِسلامي، هو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عفا عن أخطر المجرمين من أمثال "وحشي" الذي قتل "حمزة بن عبد المطلب" عم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبل النّبي توبته، وكذلك لا يمكن القول بأن إرتكاب جريمة القتل في حال الشرك يختلف عنه في حال الإِيمان، بحيث يقال باحتمال التغاضي والعفو عن الجريمة في الحالة الأُولى، وعدم احتماله في حالة الإِيمان، وقد سبق أن علمنا أن ليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله، وعرفنا أنّ هذا الذنب - أيضاً - قابل للتوبة وان الله يعفو عن المشرك إِذا تاب عن شركه واعتنق الإِسلام... فكيف - والحالة هذه - يمكن القول بأنّ جريمة القتل العمد - التي لم يذكر القرآن أنّها أعظم الجرائم ليست قابلة للتوبة أو العفو؟ إِنّ قولنا بأنّ جريمة قتل العمد قابلة للتوبة والعفو لا يقلل من عظم خطورة هذه الجريمة، وقبول التوبة في هذا المجال لا يعني أنّ التوبة متيسرة بسيطة في مثل هذه الحالة، بل أنّها من أصعب الأُمور، وهي إن أُريد تحقيقها - تحتاج إِلى بذل وتضحيات كبيرة للتعويض عما خلفته الجريمة من آثار خطيرة وسيئة على المجتمع، والتعويض في هذا المجال ليس بالأمر اليسير(4) ولكننا أردنا من ذلك أن نبين أن باب التوبة ليست مغلقة على من تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى، حتى لو كان قد ارتكب في وقت من الأوقات جريمة كالقتل المتعمد. ما هي أنواع القتل؟ لقد قسم الفقهاء القتل إِلى ثلاثة أنواع: كما ورد في كتب القصاص والديات، وقد استندوا في هذا التقسيم على ما استلهموه من الآيات القرآنية والروايات والأحاديث الواردة في هذا المجال... وهذه الأنواع هي: 1 - القتل العمد. 2 - القتل شبه العمد. 3 - القتل الخطأ. والقتل العمد هو الذين يحصل باستخدام وسائل القتل مع وجود سبق إِصرار على إرتكاب هذه الجريمة، مثل أن يعمد إِنسان إِلى قتل إِنسان آخر مستخدماً في ذلك وسائل كالسكين أو العصي أو الحجارة أو غير ذلك من الوسائل القاتلة. أمّا القتل شبه العمد فهو الذي يكون مسبوقاً بإِصرار القاتل على إِيذاء القتيل دون استهداف قتله، فيؤدي الإِيذاء إِلى القتل، كأن يضرب شخص شخصاً آخر، دون أن يقصد قتله، فيؤدي الضرب إِلى قتل المضروب. والقتل الخطأ هو القتل الذي يحصل دون أن يكون لدى القاتل سبق إِصرار يعلى إرتكاب هذه الجريمة، ولم يكن يهدف إِلى إِيذاء القتيل، ويحدث هذا - مث - لدى محاولة إِنسان اصطياد بعض الحيوانات بنوع من أنواع السلاح، فبدل أن يقع السلاح في الحيوان يقع سهواً على إِنسان آخر فيقتله. وقد رودت الأحكام المختلفة لهذه الأنواع الثلاثة من القتل في الكتب الفقهية. 1- ذكرت أسباب أُخرى لنزول هذه الآية والآيات التي تليها، وقيل أنّها نزلت في واقعة أُحد بينما الآيات التالية تتحدث عن الهجرة ولا تنسجم مع هذا القول، بل تسنجم مع سبب النزول الذي ذكرناه أعلاه. 2- في هذه الجملة، جملة أُخرى محذوفة تتضح لدى الإِمعان في الأجزاء الاُخرى من الآية والتقدير: "فمالكم تفرقتم في المنافقين فئتين ...". 3- "أركسهم" : مَن ركس وهو قلب الشيء على رأسه، وتأتي أيضاً بمعنى ردّ أوّل الشيء إِلى آخره. 4- في المجلد الأول من هذا التّفسير بحث عن الهداية والضلالة، فراجعه. ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا﴾ قاصدا قتله عالما بإيمانه ﴿فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ إن لم يتب ويعف الله عنه وحمل على المستحل لقتله وعن الصادق (عليه السلام): هو أن يقتله على دينه وقيل كني بالخلود عن طول المكث ﴿وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾.