ثمّ يقول تعالى بصيغة التهديد: إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة، سوف يرونهم آخر الامر، لكن (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين).(1)
بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الإِستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإِحساس بالخطر أمام الآخرين، فيقولون: الأَمان.. الأَمان، اعفوا عنّا: (ويقولون حجراً محجوراً).
ولكن لا هذه الجملة - ولاغيرها - لها أثر على مصيرهم المحتوم، ذلك لأنّ النار التي هم أوقدوها ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا، وستتجسد أمامهم الأعمال السيئة التي ارتكبوها، فلا يملكون شيئاً لأنفسهم.
كلمة "حجر" (على وزن قشر) تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها وجعلوها ممنوعة الورود، وعندما يقال "حجر إسماعيل" فلأن حائطاً أُنشيء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً "حجراً" لأنّه يمنع الانسان من الأعمال المخالفة. لذا نقرأ في الآية (الخامسة) من سورة الفجر (هل في ذلك قسم لذي حجر) ، وأيضاً "اصحاب الحجر" الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال، فكانوا يعيشون في أمانها.
هذا في ما يخص كلمة "حجر".
أمّا جملة "حجراً محجوراً"فقد كانت اصطلاحاً بين العرب، إذا التقوا بشخص يخافونه، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.
كان هذا عرف العرب، خاصّة في الأشهر الحرم، حيث كانت الحرب ممنوعة، فحينما يواجه شخص آخر، ويحتمل خرق هذا العُرف والتعرض للأذى، فإنّه يكرر هذه الجملة، والطرف المقابل - أيضاً - مع سماعة لها كان يعطيه الأمان، فيخرجه من القلق والإضطراب والخوف.
على هذا فإنّ معنى الجملة المذكورة هو: "أريد الأمان، الأمان الذي لا رجعة فيه ولا تغيير".(2)
اتّضح ممّا قلناه أعلاه، أنّ المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول، وتناسب الأفعال الموجودة في الآية، والسير التاريخي، وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب - أيضاً - يستدعي هذا، ولكن البعض احتمل أنّ الملائكة هم أصحاب هذا القول، و هدفهم منع المشركين من رحمة الله.
وقال آخرون: إنّ أصحاب هذا القول هم المجرمون، يقولونه بعضهم لبعض، ولكن الظاهر هو المعنى الأول، حيث اختاره كثير من المفسّرين، أو ذكروه كأوّل تفسير لذلك.(3)
أمّا أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملائكة؟ فقد ذكر المفسّرون احتمالين: أحدهما: هو يوم الموت حيث يرى الإنسان ملك الموت، كما نقرأ في الآية (93) من سورة الأنعام: (ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم). والثّاني: أنّ المقصود هو يوم القيامة والنشور، حيث يكون المجرمون أمام ملائكة العذاب فيشاهدونهم.
و مع الإنتباه إلى الآيات الآتية التي تتكلم عن النشور، خصوصاً جملة (يومئذ) التي تشير إليه، يتبيّن أنّ التّفسير الثّاني هو الأقرب.
﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ﴾ عند الموت أو في القيامة ونصب باذكر مضمرا ﴿لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ أي يمنعون البشرى ويومئذ تكرير وللمجرمين في موضع ضميرهم أو عام فيشملهم ﴿وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا﴾ أي يقول الكفرة حينئذ للملائكة هذه الكلمة استعاذة منهم كما كانوا يقولونها في الدنيا عند لقاء عدو ونحوه.