ثمّ يأتي تقسيم النّاس على قسمين، ويبيّن خصائص كلّ قِسم، يقول سبحانه: (فأمّا من أعطى واتقى، وصدّق بالحسنى، فسنيسره لليسرى).
المقصود من الإعطاء في قوله: "أعطى" هو الإنفاق في سبيل اللّه ومساعدة المحتاجين.
والتأكيد على " التقوى" عقب الإعطاء قد يشير إلى ضرورة تنزيه النية وإخلاص القصد عند الإنفاق، وإلى الحصول على المال من طريق مشروع، وإنفاقه في طريق مشروع أيضاً، وإلى خلوه من المنّ والأذى... فكلّ هذه الصفات تجتمع في عنوان التقوى.
قال بعض إن "أعطى" إشارة إلى العبادات المالية و"اتقى" إشارة إلى سائر العبادات العملية من أداء الواجبات وترك المحرمات، غير أن التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية،ومع سبب نزولها.
و"الحسنى" مؤنث "أحسن" إشارة إلى مثوبة اللّه وجزاءه الأوفى، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بها، وفي سبب النزول ذكرنا أن "أبا الدحداح" أنفق أمواله لإيمانه بما سيعوضه اللّه في الآخرة.
والحسنى وردت بهذا المعنى أيضاً في قوله سبحانه: (وكلاًّ وعد اللّه الحسنى) (4).
قيل إن المقصود هو "الشريعة الحسنى"، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بالإسلام، الذي هو أكمل الأديان.
وقيل إنّها كلمة "لا إله إلاّ اللّه"، وقيل: إنّها الشهادتان.
غير أنّ سياق الآيات وسبب النزول وذكر "الحسنى" بمعنى "الجزاء الحسن" في كثير من الآيات كلّه يرجح التّفسير الأوّل.
عبارة (فسنيسره لليسرى) قد تكون إشارة إلى التوفيق الإلهي وإلى تيسير الطاعة لمثل هؤلاء الأفراد، أو فتح طريق الجنّة أمامهم وما يقابلونه من استقبال الملائكة وتحيتهم، أو كلّ ذلك.
من المؤكّد أنّ الذين سلكوا طريق الإنفاق والتقوى، واطمئنوا إلى جزاء اللّه وثوابه في الآخرة، تتذلل أمامهم المشاكل وينعمون في الدنيا والآخرة بالسكينة والإطمئنان.
أضف إلى ما سبق، قد يكون الإنفاق المالي شاقاً وثقيلاً على طبع الإنسان في البداية، ولكن بتوطين النفس على ذلك والإستمرار فيه، يتحول إلى أمر ميسور... بل أمر فيه لذّة وارتياح.
ما أكثر الأفراد الأسخياء الذين ينشرحون لحضور الضيف على مائدتهم، ولا يرتاحون إذا خلت مائدتهم يوماً من ضيف... وهذا نوع من تيسير الاُمور لهؤلاء.
ولا يفوتنا أن نذكر أيضاً أنّ الإيمان بالمعاد وبثواب الآخرة يهون المشاكل والصعاب، ويجعل بذل المال بل النفس ميسوراً، ويخلق الدافع نحو طلب الشهادة في ميادين الجهاد عن رغبة مقرونة باحساس باللذة والنشوة.
"اليسرى" من اليُسر، وهي في الأصل بمعنى إسراج الفرس والجامها وإعدادها للركوب.
ثمّ اُطلقت الكلمة على كلّ عمل سهل ممهّد (5).
﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى﴾ حق الله ﴿وَاتَّقَى﴾ المحارم