لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وما تفرقوا إلاّ بعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبيّ الصادح بالحق. (وما تفرق الذين اُوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة). ممّا تقدم، الآيات الاُولى لهذه السّورة المباركة تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين الذين كانوا يدعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إنّ جاءهم نبيّ بالدلائل الساطعة. لكنّهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلاّ فريق منهم آمن واهتدى. وهذا المعنى يشبه ما جاء في قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين). (1) نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور، ولابدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الإنتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا باعداء الدعوة. جمع من المفسّرين لهم رأي آخر في تفسير الآية، يقولون: مقصود الآية هو أنّ أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عن دينهم حقيقةً - لا إدعاءً - حتى تأتيهم البيّنة. وهذا يعني أنّ هؤلاء آمنوا بعدما جاءتهم البيّنة، لكن الآيات التالية تدل على غير ذلك، اللّهم إلاّ إذا قيل أنّ المقصود إيمان مجموعة منهم وإن كانت قليلة وتكون المسألة من قبيل ما يسمى في المنطق "موجبة جزئية". ولكن على أي حال نستبعد هذا التّفسير، ويبدو أنّ الفخر الرازي لهذا السبب وصف الآية الاُولى من هذه السّورة بأنّها أعقد آية في القرآن لتعارضها مع الآيات التالية، ولحل هذا التعارض ذكر طرقاً متعددة أفضلها هو الذي ذكرناه أعلاه. ثمّة تفسير ثالث للآية هو أنّ اللّه لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتى يتمّ الحجّة عليهم ويرسل إليهم البيّنة ويبيّن لهم الطريق. ولذلك أرسل إليهم نبيّ الإسلام لهدايتهم. بناء على هذا التّفسير، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم الكلام وتقرر أن اللّه يبعث إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم (2). على أي حال، "البيّنة" في الآية هي الدليل الواضح، ومصداقها حسب الآية الثّانية شخص "رسول اللّه" وهو يتلو عليهم القرآن. "صحف" جمع "صحيفة"، وتعني ما يكتب عليه من الورق، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم (ص) لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق. و"مطهرّة" أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك والكذب والباطل. ومن تلاعب شياطين الجن والإنس. كما جاء أيضاً في قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) (3) جملة (فيها كتب قيمة) إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماوية خال من الإنحراف والإعوجاج. من هنا فإنّ هذه "الكتب" تعني المكتوبات، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من اللّه، لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضاً، كقوله تعالى: (كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم) (4). وبهذا يكون معنى "قيمة" السويّة والمستقيمة، أو الثابتة والمستحكمة، أو ذات قيمة، أو كل هذه المعاني مجتمعة. ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أن القرآن فيه الكتب السماوية القيّمة السابقة لأنّه يضم جميع محتوياتها وزيادة. ويلفت النظر تقدم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الاُولى، والإقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين، بينما الآية تريد الإثنين. وهذا يعود ظاهراً إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف، وكان المشركون تابعين لهم. أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلاً لذم أكثر لما عندهم من علماء كثيرين، وبذلك كانوا ذا مستوى أرفع من المشركين. معارضتهم - إذن - أفظع وأبشع وتستحق مزيداً من التقريع. ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ عما اجتمعوا عليه من كفرهم بأن آمن بعضهم أو عن وعدهم باتباع الرسول بأن يثبتوا على الكفر ﴿إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ كقوله فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وخص أهل الكتاب بمزيد التوبيخ لعلمهم ويلزمه كون المشركين أولى بالتفرق لجهلهم.