لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التالية تذكر المجموعة الثّانية، وهم المؤمنون وتقول: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة). والآية التالية تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند اللّه من مثوبة: (جزاؤهم عند ربّهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربّه). يلاحظ أنّ الحديث عن المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان. وفي ذلك إشارة إلى أن ادعاء الإيمان وحده لا يكفي، بل لابدّ أن تشهد عليه الأعمال الصالحة. لكن الكفر وحده - وإن لم يقترن بالأعمال السيئة - مبعث السقوط والشقاء. أضف إلى أن الكفر عادة منطلق لانواع الذنوب والجرائم والإنحرافات. عبارة (اُولئك هم خير البريّة) تبيّن بجلاء أن الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الاُخرى تشهد على ذلك أيضاً، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: (ولقد كرمنا بني آدم) (3). هذه الآية تحدثت عن الجزاء المادي الذي ينتظر المؤمنين، وعن الجزاء المعنوي الروحي لهم، وهو رضا اللّه عنهم ورضاهم عنه. إنّهم راضون عن اللّه لأنّ اللّه أعطاهم ما أرادوه، واللّه راض عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم، وإنّ كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه. وأية لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه. نعم، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد، ونعيم روحه رضا اللّه ولقاؤه. جملة (ذلك لمن خشي ربّه) تدل على أن كل هذه البركات تنطلق من "خشية اللّه". لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كلّ طاعة وتقوى وعمل صالح. بعض المفسّرين قرن هذه الآية، بالآية (28) من سورة فاطر حيث يقول سبحانه: (إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء) وخرج بنتيجة هي أنّ الجنّة للعلماء طبعاً لابدّ أن نأخذ بنظر الإعتبار وجود مراتب ومراحل للخشية وهكذا مراتب للعلم. قيل أيضاً أن "الخشية" أسمى من "الخوف"، لأنّها خوف مقرون بالتعظيم والإحترام. بحوث 1 - علي (ع) وشيعته خير البريّة ثمّة روايات كثيرة بطرق أهل السنة في مصادرهم الحديثية المعروفة، وهكذا في المصادر الشيعية، فسّرت الآية: (اُولئك هم خير البريّة) بأنهم علي وشيعته. "الحاكم الحسكاني النيسابوري" عالم أهل السنة المعروف في القرن الخامس الهجري نقل هذه الرّوايات في كتابه المشهور "شواهد التنزيل" بطرق مختلفة، ويزيد عدد هذه الرّوايات على العشرين نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: 1 - عن ابن عباس قال: عندما نزلت آية: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البريّة) قال رسول اللّه لعلي: "هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضباناً مقحمين" (1). 2 - وعن أبي برزة قال: حينما تلا رسول اللّه هذه الآية قال: "هم أنت وشيعتك يا علي، وميعاد ما بيني وبينك الحوض" (2). 3 - وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: كنّا جالسين عند النبيّ جوار الكعبة، فاقدم علينا علي، وحين رآه النبيّ قال: "قد أتاكم أخي"، ثمّ التفت إلى الكعبة، وقال: "وربّ هذه البيّنة! إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة". ثمّ التفت إلينا وقال: "أما واللّه إنّه أوّلكم إيماناً باللّه، وأقومكم بأمر اللّه، وأوفاكم بعهد اللّه، وأقضاكم بحكم اللّه، وأقسمكم بالسوية، وأعدلكم في الرعية وأعظمكم عند اللّه مزية" قال جابر: فأنزل اللّه: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة) فكان علي إذا أقبل قال أصحاب محمّد قد أتاكم خير البرية بعد رسول اللّه. (3) نزول هذه الآية جوار الكعبة لا يتنافى مع مدنية السّورة. إذ من الممكن أن تكون من قيبل النزول المجدد، أو التطبيق، أضف إلى ذلك أنّ نزول هذه الآيات لا يستبعد أن يكون خلال أسفار النّبي إلى مكّة من المدينة، خاصّة أنّ الراوي (جابر بن عبد اللّه الأنصاري) قد التحق بالنّبي في المدينة. بعض هذه الأحاديث رواها ابن حجر في الصواعق، ومحمّد الشبلنجي في نور الابصار (4). وجلال الدين السيوطي نقل القسم الأعظم من الرّواية الأخيرة عن ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري (5). 4 - في "الدر المنثور" عن ابن عباس قال: "حين نزلت آية: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة). قال رسول اللّه لعلي: "هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين". 5 - وفي الدر المنثور أيضاً عن ابن مردويه عن علي (ع) قال: "قال لي النبيّ (ص) : ألم تسمع قول اللّه (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك هم خير البريّة) ؟ أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الاُمم للحساب تدعون غرّاً محجلين" (6). كثير من علماء السنة، سوى من ذكرنا، نقلوا مثل هذه الرّوايات في كتبهم منهم: الخطيب الخوارزمي في المناقب، وأبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصام، والعلاّمة الطبري في تفسيره، واين صباغ المالكي في الفصول المهمّة، والعلاّمة الشوكاني في فتح الغدير، والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة، والآلوسي في روح المعاني. باختصار هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل علي وأتباعه. وهذه الرّوايات تدل ضمناً أنّ كلمة "الشيعة" باعتبارها اسماً لأتباع علي (ع) كانت قد شاعت منذ عهد رسول اللّه (ص) بين المسلمين على لسان الرّسول نفسه. وأُولئك الذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخرة في خطأ كبير. 2 - ضرورة إخلاص النيّة في العبادة بعض علماء اُصول الفقه استدلوا بالآية: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين) على لزوم "قصد القربة" في العبادات، وأن الأصل في الأوامر أنّها تعبدية لا توصلية. وهذا يتوقف على كون "الدين" في الآية بمعنى العبادة كي يصحّ الإستدلال بها على لزوم الإخلاص في العبادات... ويتوقف على أنّ يكون (الأمر) في الآية بشكل مطلق كي يكون مفهومها لزوم قصد القربة في كل الأوامر (عدا ما خرج منها بدليل). غير أنّ مفهوم الآية ليس كذلك على الظاهر. فالمقصود إثبات التوحيد مقابل الشرك، أي إنّ هولاء لم يؤمروا إلاّ بالتوحيد، وبهذا لا ترتبط المسألة بالأحكام الفرعية. 3 - منحنى الصعود والسقوط من آيات هذه السّورة المباركة يستفاد أنّ الانسان فريد بين مخلوقات الكون في البون الشاسع الذي يفصل بين منحنى ارتفاعه وسمّوه وبين منحنى سقوطه وهبوطه. لو كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات (عبارة "عملوا الصالحات" تشمل كلّ الأعمال الصالحة لا بعضها) فهو أفضل خلق اللّه; وإنّ سلك طريق الكفر والضلالة والعناد هبط إلى هوة سحيقة وكان شرّ خلق اللّه. هذا البون الشاسع بين الإتجاهين - رغم خطورته وحساسيته - له دلالة كبيرة على مكانة النوع البشري وقابليته للتكامل. وطبيعي أن يكون إلى جانب هذه القابلية العظيمة إمكان عظيم للهبوط والسقوط. ربّنا! نستمد العون من فضلك وإحسانك لبلوغ درجة "خير البرية" ربّنا! اجعلنا من شيعة ذلك الرجل الصالح الذي كان أجدر من نال هذه الدرجة. ربّنا! مُنّ علينا باخلاص يجعلنا متفانين في حبّك وعبادتك. آمين يا ربّ العالمين نهاية سورة البيّنة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ قدم مدحهم مبالغة.