لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(إنّ ربّهم بهم يومئذ لخبير). نعم، فهو عليهم أعمالهم ونياتهم وسيجازيهم وفقها. "بعثر" من "البعثرة" وهي البعث والإِثارة والإِخراج وبعثرة ما في القبور: بعث الموتى واخراجهم من القبور. "ما" اسم موصول لغير العاقل عادة، وإنّما قال سبحانه: (ما في القبور) إمّا لكون الأفراد أمواتاً، أو لأنّهم لا يزالون في حالة إبهام بالنسبة لهويتهم. والتعبير بالقبور لا يتنافى مع عدم وجود قبر لبعض الأفراد، كالذين يغرقون في البحر، أو المندرسة قبورهم، والمتفرق تراب رفاتهم. لأن أغلب النّاس لهم قبور، أضف إلى ذلك أن القبر يمكن أن يكون له معنى واسع يشمل كل محل فيه تراب جسد الإِنسان، وإن لم يكن بشكل قبر اعتيادي. "حُصّل" من التحصيل، وهو في الأصل يعني إخراج اللب من القشر، وكذلك تصفية المعادن، واستخراج الذهب وأمثاله من الخامات. ثمّ استعملت لمطلق الإِستخراج والفصل. والكلمة في الآية تعني فصل الخير عن الشر في القلوب... الإِيمان عن الكفر، أو الصفات الحسنة عن الصفات السيئة... أو النوايا الحسنة عن الخبيثة... تُفصل في ذلك اليوم وتظهر، وينال كل فرد حسب ذلك جزاؤه. كما قال سبحانه في موضع آخر: (يوم تبلى السرائر). (10) والتعبير بكلمة "يومئذ" يعني أن الله (في ذلك اليوم) خبير بأعمال العباد وسرائرهم. ونعلم أنّ الله سبحانه عليم دائماً بذات الصدور. فالتعبير "يومئذ" هو لأن ذلك اليوم يوم الجزاء، والله يجازيهم على أعمالهم وعقائدهم. هذا التعبير - كما قال بعض المفسّرين - يشبه قول الذي يهدد شخصاً فيقول: سأعرف ماذا دهاك، فهو يعرف أمره الآن أيضاً، والقصد أنه سيريه نتيجة ذلك. نعم، الله سبحانه عليم وخبير بأسرارنا وما تنطوي عليه نفوسنا كاملا. لكن أثر هذا العلم سيكون أظهر وأوضح عند الجزاء. وهذا التحذير لو دخل دائرة إيمان البشر لكان سداً منيعاً بينهم وبين الذنوب العلنية والخفية، والخارجية والباطنية، ولا يخفى على أحد ما لهذا الا ِعتقاد من آثار تربوية. بحوث 1 - ارتباط قسم هذه السّورة بأهدافها من الأسئلة التي تطرح حول هذه السّورة سؤال حول الإِرتباط بين ما في هذه السّورة من قسم بخيول المجاهدين، وقوله سبحانه: "إن الإِنسان لربه لكنود". فمواضع القسم في القرآن يشاهد فيها ارتباط بين القسم والمقسم به. وفصاحة القرآن وبلاغته تقتضي ذلك. قد يكون الإِرتباط في هذه السّورة أن القرآن يقول: ثمة أفراد من بني الإِنسان يضحّون على طريق الجهاد ويبذلون النفس والنفيس في سبيل اللّه، فكيف والحال هذه يستولي على بعض النّاس البخل والكفران، فلا يؤدّون فريضة شكر النعم ولا يبذلون في سبيل الله؟! صحيح أن القسم في الآيات بالخيل، لكن الخيل إنّما اكتسبت أهميتها لأنها مركب المجاهدين. فالقسم إذن بجهاد المجاهدين. (وهكذا الأمر إذا كان القسم بإبل الحجاج). وقيل أيضاً أن الإِرتباط المذكور يحصل بأن هذه الحيوانات تجري على طريق رضا الله، فلماذا لا تخضع أنت أيّها الإِنسان له، وأنت أشرف المخلوقات وأحق من غيرك؟! والمناسبة الأولى أوضح. 2 - هل الإِنسان كنود بطبيعته؟ قد يستفاد من قوله سبحانه: (إنّ الإِنسان لربّه لكنود) أن البخل والكفران صفة لازمة لطبيعة الإِنسان، فكيف يتناسب هذا مع ما يمتلكه الإِنسان من ضمير يقظ وشعور فطري يدعوه إلى شكر المنعم وإلى التضحية؟ مثل هذا السؤال يطرح في المواضع التي تتحدث عن صفة بارزة من صفات الضعف الإِنساني كقوله سبحانه عن الإِنسان بأنه ظلوم وجهول (1) وإنّه هلوع (2) وإنّه يؤوس وكفور (3) وإنّه ليطغى (4). فهل نقاط الضعف هذه قائمة في طبيعة الكائن البشري؟ كيف يمكن أن يكون هذا والقرآن يقول: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (5) جواب هذا السؤال يتّضح لو عرفنا أن الإِنسان له بعدان وجوديان. ولذلك يستطيع في منحناه الصعودي أن يرتقي إلى أعلى عليين، وفي منحناه النزولي إلى أسفل سافلين. إذا خضع للتربية الإِلهية واستلهم نداء العقل، وبنى نفسه كان مصداقاً لقوله سبحانه: (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). وإذا أعرض عن الإِيمان والتقوى، وخرج عن خط أولياء الله كان موجوداً ظلوماً كفاراً ويؤوساً وكفوراً وهلوعاً وكنوداً. من هنا فلا تناقض بين هذه الآيات، وكل منها يشير إلى واحد من بُعدي وجود الإِنسان. نعم، في داخل فطرة الإِنسان تمتد جذور كل الحسنات والمفاخر والفضائل، كما إن فيه استعداداً لما يقابل هذه الفضائل. ولذلك لا يوجد في عالم الخلقة موجود يفصل بين قوسه الصعودي وقوسه النزولي هذا القدر من البون الشاسع. (تأمل بدقّة). 3 - عظمة الجهاد القرآن تعرض للحديث عن مسألة الجهاد وعظمة المجاهدين في سبيل اللّه في مواضع عديدة. ولكن الحديث في هذه السّورة فريد في تعظيمه للجهاد إذ عدّ حتى أنفاس خيل المجاهدين وشرر حوافرها والغبار الذي تثيره عظيمة استحقت أن يقسم بها. وركزت الآيات بشكل خاص على السرعة والعمل الخاطف للمجاهدين باعتباره أحد عوامل النصر في الحروب، وعلى المباغتة باعتبارها عاملاً آخر من عوامل الإنتصار في الحرب. وكلّ هذه تعاليم في منهج الجهاد. ويلفت النظر في سبب نزول الآية أنّ عليّاً (ع) أمر أن تسرج الخيل في ظلام الليل وأن تعدّ إعداداً كاملاً، وحينما انفلق الفجر وزالت العتمة صلى بالنّاس الصبح، وشنّ هجومه مباشرة، وما أن انتبه العدوّ حتى وجد نفسه تحت وطأة خيل جيش الإسلام. هذه الحملة السريعة المباغتة جعلت إصابات المسلمين أقلّ ما يمكن، وحسمت الحرب خلال ساعات، وهذه المسائل انعكست جميعاً في آيات هذه السّورة بشكل دقيق رائع. واضح أنّ محور التكريم في هذه السّورة ليس الخيل أو شرارة حوافرها أو الغبار المتصاعد من تحت أرجلها بل هو "الجهاد"، ثمّ "عُدّته" التي تشمل كلّّ أنواع أجهزة الحرب في أي زمان... تشمل كلّ أنواع "القوّة" المذكورة بشكل عام مطلق إلى جانب ذكر "رباط الخيل" في الآية (60) من سورة الأنفال. ربّنا! وفقنا للجهاد والتضحية في سبيل رضاك. إلهنا! النفس الجامحة تجنح إلى الكفران... فاحفظنا من أخطارها. اللّهم! أنت عليم بسرائرنا وخبير بأعمالنا ما ظهر منها وما بطن فارفق بنا بلطفك وفضلك يا أرحم الراحمين. آمين يا ربّ العالمين نهاية سورة والعاديات ﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾ عليم بأحوالهم وأعمالهم فمجازيهم بها.