التّفسير:
طريق النجاة الوحيد:
في بداية هذه السّورة نواجه قَسَماً قرآنيا جديداً، يقول سبحانه:
(والعصر).
كلمة (العصر) في الأصل الضغط، وإنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة.
ثمّ أطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زماني معين، كأن نقول عصر صدر الإسلام.
ولذلك ذكر المفسّرون في معنى العصر احتمالات كثيرة:
1 - قيل: إنّه وقت العصر من النهار، بقرينة وجود مواضع اُخرى أقسم اللّه فيها بأوّل النهار كقوله تعالى: (والضحى) (1) أو (والصبح إذا أسفر) (2).
وإنّما أقسم بالعصر لأهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر، الأعمال اليومية تنتهي، والطيور تعود إلى أوكارها، وقرص الشمس يميل إلى الغروب، ويتجه الجو إلى أن يكون مظلماً بالتدريج.
هذا التغيير يلفت نظر الإنسان إلى قدرة اللّه المطلقة في نظام الكون، وهو في الواقع أحد علامات التوحيد، وأية من آيات اللّه تستحق أن يقسم بها.
2 - قيل: إنّه كلّ الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة، والأحداث الجسيمة.
وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي.
3 - بعضهم قال: إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة، أو عصر قيام المهدي المنتظر (ع)، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر.
والقسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصّة (3).
4 - بعضهم عاد إلى الأصل اللغوي للكلمة، وقال إنّ القَسَم في الآية بأنواع الضغوط والمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته، وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده، وتذكره باللّه سبحانه، وتربّي فيه روح الإستقامة.
5 - قيل: إنّها إشارة إلى "الإنسان الكامل" الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة.
6 - وأخيراً قيل إنّ الكلمة يراد بها صلاة العصر، لأهميتها الخاصّة بين بقية الصلوات، لأنّها (الصلاة الوسطى) التي أمر اللّه أن يحافظ عليها خاصّة.
مع أنّ التفاسير أعلاه غير متضادة، ويمكن أن تجتمع كلّها في معنى الآية، ويكون القَسَم بكل هذه الاُمور الهامّة، ولكن الأنسب فيها هو القَسَم بالزمان وتاريخ البشرية.
لأنّ القَسَم القرآني - كما ذكرنا مراراً - يتناسب مع الموضوع الذي أقسم اللّه من أجله ومن المؤكّد أن خسران الإنسان في الحياة ناتج عن تصرّم عمرهم، أو أنّه عصر بعثة الرسول (ص)، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السّورة نزل في هذا العصر.
تتّضح ممّا سبق عظمة آيات القرآن وسعة مفاهيمها.
فكلمة واحدة تحمل من المعاني العميقة ما يجعلها صالحة لكل هذه التفاسير المتنوعة.
﴿وَالْعَصْرِ﴾ أقسم بالدهر لما فيه من العبر أو بآخر النهار كما أقسم بأوله الضحى أو بصلاة العصر لفضلها.