الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القَسَم من أجله، يقول سبحانه: (إنّ الإنسان لفي خسر)
الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى.
تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة، تضعف قواه المادية والمعنوية، تتناقص قدرته باستمرار.
نعم، إنّه كشخص عنده ثروة عظيمة، وهذه الثروة يؤخذ منها كلّ يوم شيء باستمرار رغم إرادته، هذه طبيعة الحياة الدنيوية... طبيعة الخسران المستمر!
القلب له قدرة معينة على الضربان، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائياً دون علّة من عيب أو مرض.
هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض.
وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان، وثروات قدراته المختلفة.
"خُسر" وخُسران، كما يقول الراغب، انتقاص رأس المال، وينسب ذلك إلى الإنسان، فيقال خَسِرَ فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته.
قال تعالى: (تلك إذن كرة خاسرة).
ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله اللّه تعالى الخسران المبين، وقال: "الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين" (4).
الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ينقل عن أحد الصالحين ما ملخصه أنّه تعلم معنى هذه الآية الكريمة من بائع ثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله (5) على أي حال، الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة.
كما يقول الإمام علي بن محمّد الهادي (ع) : "الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون" (6) الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: كلّ النّاس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلاّ مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية.
نعم، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السّورة.
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ﴾ الجنس ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ خسران في صفقته وبيعه الجليل الباقي بالقليل الفاني.