لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) بعبارة آُخرى: ما يستطيع أن يحول دون هذا الخسران الكبير، وأن يبدله إلى منفعة كبيرة وربح عظيم هو أنّه مقابل فقدان رأس المال، يحصل على رأس مال أغلى وأثمن، يستطيع أن يسدّ مسدّ رأس المال المفقود، بل أن يكون أفضل وأكثر منه عشرات، بل مئات، بل آلاف المرات. كلّ نفس من أنفاس الإنسان يقربه خطوة نحو الموت، أمير المؤمنين علي (ع) يقول: "نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجله" (7). وهكذا كلّ ضربة من ضربات القلب تقرب الإنسان من الموت من هنا لابدّ من المبادرة إلى ملء الفراغ الذي يولده هذا الخسران الحتمي. هناك من ينفق رأس مال عمره وحياته مقابل الحصول على مال قليل أو كثير، على بيت صغير أو فخم. هناك من ينفق كل رأس المال هذا من أجل الوصول إلى منصب أو مقام. وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذاته. ليس أي واحد من هذه الاُمور - دون شك - يمكن أن يكون ثمناً لتلك الثروة العظيمة... ثروة العمر... ثمنها الوحيد رضا اللّه سبحانه ومقام قربه لا غير. قال أمير المؤمنين علي (ع) : "إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها" (8). وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) في دعاء شهر رجب: "خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلاّ لك". ومن هنا كان أحد آسماء يوم القيامة "يوم التغابن" كما جاء في قوله سبحانه: (ذلك يوم التغابن) (9). أي ذلك اليوم الذي يظهر من هو المغبون والخاسر. إنّه لتنظيم رائع في علاقة العبد بربّه. فهو سبحانه من جهة يشتري رأس مال وجود الإنسان: (إنّ اللّه اشترى من المؤمنين...) (10). ومن جهة اُخرى يشتري سبحانه رأس المال القليل: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) (11). ومن جانب آخر يدفع مقابل ذلك ثمناً عظيماً يبلغ أحياناً عشرة أضعاف وأحياناً سبعمائة ضعف، وأحياناً أكثر: (في كلّ سنبلة مائة حبّة، واللّه يضاعف لمن يشاء) (12). وكما ورد في الدعاء: "يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير". ومن جهة رابعة، فإنّ كلّ رؤوس أموال الإنسان وثرواته قد وهبها اللّه إيّاه... واللّه بفضله ومنّه ولطفه يعود ليشتري هذه الثروات نفسها بأغلى الأثمان! بحث منهج السعادة ذو المواد الأربع: من المهم أن نقف ولو قليلاً عند المنهج الذي وضعه القرآن الكريم للنجاة من ذلك الخسران... إنّه منهج يتكون من أربعة اُصول هي: الأصل الأوّل: "الإيمان"، وهو البناء التحتي لكلّ نشاطات الإنسان، لأنّ فعاليات الإنسان العملية تنطلق من اُسس فكره واعتقاده، لا كالحيوانات المدفوعة في حركاتها بدافع غريزي. بعبارة اُخرى، أعمال الإنسان بلورة لعقائده وأفكاره، ومن هنا فإن جميع الأنبياء بدأوا قبل كلّ شيء باصلاح الاُسس الإعتقادية للاُمم والشعوب. وحاربوا الشرك بشكل خاص باعتباره أساس أنواع الرذائل والشقاوة والتمزق الاجتماعي. والآية الكريمة قالت: (إلاّ الذين آمنوا) فذكرت الإيمان بمعناه المطلق ليشمل الإيمان بكلّ المقدسات، ابتداء من الإيمان باللّه وصفاته، حتى الإيمان بالقيامة والحساب والجزاء والكتب السماوية وأنبياء اللّه وأوصيائهم. الأصل الثّاني: "العمل الصالح"، وهو ثمرة دوحة الإيمان. تقول الآية: (... وعملوا الصالحات) لا العبادات فحسب، ولا الإنفاق في سبيل اللّه وحده، ولا الجهاد في سبيل اللّه فقط، ولا الإكتفاء بطلب العلم... بل كلّ الصالحات التي من شأنها أن تدفع إلى تكامل النفوس وتربية الأخلاق والقرب من اللّه، وتقدم المجتمع الإنساني. هذا التعبير يشمل الأعمال الصغيرة، كرفع الحجر من طريق النّاس والأعمال الجسام مثل إنقاذ ملايين النّاس من الضلالة والإنحراف ونشر الرسالة الحقة والعدالة في أرجاء العالم. وما ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) في تفسير (وعملوا الصالحات) بأنّه المواساة والمساواة للأخوة في اللّه، إنّما هو من قبيل بيان المصداق الواضح للأية. قد تصدر الأعمال الصالحة من أفراد غير مؤمنين، لكنّها غير متجذرة وغير ثابتة وغير واسعة. لأنّها لا تنطلق من دافع إلهي عميق، ولا تحمل صفة الشمولية. القرآن ذكر "الصالحات" هنا بصيغة الجمع مقرونة بالألف واللام لتدل على معنى العموم والشمول. ولتبيّن أن طريق تفادي الخسران الطبيعي الحتمي بعد الإيمان، هو أداء الأعمال الصالحة جميعاً، وعدم الإكتفاء بعمل واحد أو بضع أعمال صالحات. حقّاً، لو رسخ الإيمان في النفس، لظهرت على الفرد مثل هذه الآثار. الإيمان ليس فكرة جامدة قابعة في زوايا الذهن، وليس اعتقاداً خالياً من التأثير. الإيمان يصوغ كلّ وجود الإنسان وفق منهج معين. الإيمان مثل مصباح منير مضيء في غرفة. فهو لا يضيء الغرفة فحسب، بل إن أشعته تسطع من كلّ نوافذ الغرفة إلى الخارج بحيث يرى كل مار نوره بوضوح. وهكذا، حين يسطع مصباح الإيمان في قلب إنسان، فإنّ نوره ينعكس من لسان الإنسان وعينه وأذنه ويديه ورجليه. حركات كلّ واحدة من هذه الجوارح تشهد على وجود نور في القلب تسطع أشعته إلى الخارج. ومن هنا اقترن ذكر الصالح في أغلب مواضع القرآن بذكر الإيمان باعتبارها لازماً وملزوماً. فقال سبحانه: (من عمل صالحاً من ذكر أو اُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) (1). ويقول تعالى عن اُولئك الذين تركوا الدنيا دون عمل صالح، إنّهم يصرون على العودة إلى الدنيا ويقولون: (ربّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) (2). ويقول سبحانه لرسله: (يا أيّها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) (3). ولما كان الإيمان والعمل الصالح لا يكتب لهما البقاء إلاّ في ظلّ حركة اجتماعية تستهدف الدعوة إلى الحق ومعرفته من جهة، والدعوة إلى الصبر والإستقامة على طريق النهوض باعباء الرسالة، فإنّ هذين الأصلين تبعهما أصلان آخران هما في الحقيقة ضمان لتنفيذ أصلي "الإيمان" و"العمل الصالح". الأصل الثّالث: "التواصي بالحق"، أي الدعوة العامّة إلى الحق، ليميز كلّ أفراد المجتمع الحق من الباطل، ويضعوه نصب أعينهم، ولا ينحرفون عنه في مسيرتهم الحياتية. "تواصوا" كما يقول الراغب تعني أن يوصي بعضهم إلى بعض. و"الحق" في الأصل الموافقة والمطابقة للواقع. وذكر للكلمة معاني قرآنية متعددة من ذلك، والقرآن، والإسلام، والتوحيد، والعدل، والصدق، والوضوح، والوجوب وأمثالها من المعاني التي ترجع إلى نفس المعنى الأصلي الذي ذكرناه. عبارة (تواصوا بالحق) تحمل على أي حال معنى واسعاً يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشمل أيضاً تعليم الجاهل وإرشاده، وتنبيه الغافل، والدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح. واضح أن المتواصين بالحق يجب أن يكونوا بدورهم من العاملين به، والمدافعين عنه. الأصل الرّابع: "التواصي بالصبر"، والإستقامة، إذ بعد الإيمان والحركة في المسيرة الإيمانية تبرز في الطريق العوائق والموانع والسرور. وبدون الإستقامة والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحقّ والعمل الصالح والثبات على الإيمان. نعم، إحقاق الحق في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامّة وعزم اجتماعي، ومن دون الإستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات. "الصبر" هنا يحمل مفهوماً واسعاً يشمل الصبر على الطاعة، والصبر على دوافع المعصية، والصبر إزاء المصائب والحوادث المرّة، وفقدان الإمكانات والثروة والثمرات (4). ممّا تقدم نفهم أنّ الاُصول الأربعة التي ذكرتها هذه السّورة المباركة تشكل المنهج الجامع لحياة الإنسان وسعادته. ولذلك ورد في الرّوايات أنّ أصحاب رسول اللّه (ص) كانوا إذا اجتمعوا لا يفترقون إلاّ بعد تلاوة سورة "والعصر" ويتذاكروا في مضامينها (5). والمسلمون اليوم إذا طبقوا هذه الاُصول الأربعة في حياتهم الفردية والإجتماعية لتغلبوا على كل ما يعانون منه من مشاكل وتدهور وتخلف، ولبدلوا ضعفهم وهزيمتهم انتصاراً، ولإقتلعوا شرّ الأشرار من على ظهر الأرض. ربّنا! تفضّل علينا بالصبر والإستقامة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. إلهنا! كلّنا في خسران، ولا يمكن أن نجبر هذا الخُسر إلاّ بلطفك. اللّهمّ! إنا نسألك توفيق العمل بالمواد الأربع التي ذكرتها في هذه السّورة من كتابك. آمين يا ربّ العالمين نهاية سورة العصر ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتواصوا﴾ أوصى بعضهم بعضا ﴿بِالْحَقِّ﴾ من اعتقاد أو عمل ﴿وَتَوَاصَوْا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ على الطاعة وعن المعصية وفي إبهام سبب الخير وتفصيل سبب الربح إشعار بأن ما عدا المذكور يوجب الخسر ويتناهى سره وكرمه إذا ظهر الجميل وستر القبيح.