لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ تبلغ الآية الأخيرة غاية الكمال في أوصاف اللّه تعالى. (ولم يكن له كفواً أحد) (18) أي ليس له شبيه ومثل اطلاقاً. "الكفو": هوالكفء في المقام والمنزلة والقدر. ثمّ اطلقت الكلمة على كلّ شبيه ومثيل. استناداً إلى هذه الآية، اللّه سبحانه منزّه عن عوارض المخلوقين وصفات الموجودات وكلّ نقص ومحدودية. وهذا هو التوحيد الذاتي والصفاتي، مقابل التوحيد العددي والنوعي الذي جاء في بداية تفسير هذه السّورة. من هنا فهو تبارك وتعالى لا شبيه له في ذاته، ولانظير له في صفاته، ولا مثيل له في أفعاله، وهو متفرد لا نظير له من كلّ الجهات. أمير المؤمنين علي (ع) يقول في إحدى خطب نهج البلاغة: "لم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً... ولا كفء له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه" (19). هذا التّفسير الرائع يكشف عن أسمى معاني التوحيد وأدقّها. سلا اللّه عليك يا أمير المؤمنين. بحوث الأوّل: التوحيد التوحيد،يعني وحدانية ذات اللّه تعالى ونفي أي شبيه ومثيل له. وإضافة إلى الدليل النقلي المتمثل في النصوص الدينية ثمّة دلائل عقلية كثيرة أيضاً تثبت ذلك نذكر قسماً منها باختصار: 1 - برهان صرف الوجود: وملخصه أن اللّه سبحانه وجود مطلق لا يحده قيد ولا شرط، ومثل هذا الوجود سيكون غير محدود دون شك، فلو كان محدوداً لمُني بالعدم، والذات المقدّسة التي ينطلق منها الوجود لا يمكن أن يعترضها العدم والفناء، وليس في الخارج شيء يفرض عليه العدم، ولذلك لا يحدّه حدّ. من جهة اُخرى لا يمكن تصوّر وجودين غير محدودين في العالم. إذ لو كان ثمّة وجودان لكان كلّ واحد منهما فاقداً حتماً لكمالات الآخر، أي لا يملك كمالاته ومن هنا فكلاهما محدودان. وهذا دليل واضح على وحدانية ذات واجب الوجود (تأمل بدقّة) 2- البرهان العلمي: عندما ننظر إلى الكون الذي يحيط بنا، نلاحظ في البداية موجودات متفرقة...الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم وأنواع النباتات والحيوانات. وكلما ازددنا إمعاناً في النظر الفينا مزيداً من الترابط والإنسجام بين أجزاء هذا العالم وذراته، وظهر لنا أنّه مجموعة واحدة تتحكم فيها جميعاً قوانين واحدة. ومهما تقدم العلم البشري اكتشف مزيداً من ظواهر وحدة أجزاء هذا العالم وانسجامها; حتى أنّ ظاهرة بسيطة (مثل سقوط تفاحة من الشجرة) يؤدي إلى اكتشاف قانون عام يحكم كلّ أجزاء الكون. (مثل قانون الجاذبية الذي اكتشفه نيوتن). هذه الوحدة في نظام الوجود، والقوانين الحاكمة عليه، والإنسجام التام بين أجزائه كلّها ظواهر تشهد على وحدانية الخالق. 3 - برهان التمانع: (الدليل العلمي الفلسفي)، وهو دليل آخر على إثبات وحدانية اللّه، مستلهم من قوله سبحانه: (لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا فسبحان ربّ العرش عمّا يصفون) (1). توضيح هذا الدليل جاء في المجلد 10 الصفحة 145 من هذا التّفسير تحت عنوان: برهان التمانع. 4 - دعوة الأنبياء إلى اللّه الواحد الأحد: وهو دليل آخر على وحدانية اللّه، إذ لو كان هناك خالقان كلّ واحد منهما واجب الوجود في العالم، لإستلزم أن يكون كلّ واحد منهما منبعاً للفيض. فلا يمكن لوجود ذي كمال مطلق أن يبخل في الإفاضة لأنّ عدم الفيض نقص بالنسبة للوجود الكامل. وحكمته تستوجب أن يشمل الجميع بفيضه. وهذا الفيض له نوعان: فيض تكويني (في عالم الخلقة)، وفيض تشريعي (في عالم الهداية). من هنا لو كان هناك آلهة متعددة لوجب أن يأتي مبعوثون منهم جميعاً، ليواصلوا فيضهم التشريعي إلى النّاس. أمير المؤمنين علي (ع) يقول لإبنه الحسن (ع) وهو يوصيه: "واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه". (2) هذه كلّها دلائل وحدانية ذاته. أمّا الدليل على عدم وجود أي تركيب وأجزاء في ذاته المقدسة فواضح، إذ لو كان له أجزاء خارجية لكان محتاجاً إليها طبعاً. والإحتياج لا يعقل لواجب الوجود. وإذا كان المقصود أجزاء عقلية (التركيب من الماهية والوجود، أو من الجنس والفصل) فهو محال أيضاً. لأنّ التركيب من الماهية والوجود فرع لمحدودية الموجود. بينما وجوده سبحانه غير محدود. والتركيب من الجنس والفصل فرع من أن يكون للموجود ماهية. وما لا ماهية له، ليس له جنس ولا فصل. الثّاني: فروع دوحة التوحيد تذكر للتوحيد عادة أربعة فروع: 1 - توحيد الذات: (وهو ما شرحناه أعلاه). 2 - توحيد الصفات: أي إنّ صفاته لا تنفصل عن ذاته، ولا تنفصل عن بعضها. على سبيل المثال العلم والقدرة في الإنسان عارضان على ذاته. ذاته شيء، وعلمه وقدرته شيء آخر. كما إنّ علمه وقدرته منفصلان عن بعضهما. مركز العلم روح الإنسان، ومركز قدرته الجسمية دراعه وعضلاته. لكن صفات اللّه ليست زائدة على ذاته، وليست منفصلة عن بعضها. بل هو وجود كلّه علم، وكلّه قدرة، وكلّه أزلية وأبدية. ولو لم يكن ذلك لإستلزم التركيب، وإن كان مركباً لإحتاج إلى الأجزاء والمحتاج لا يكون واجباً للوجود. 3 - التوحيد الأفعالي: ويعني أن كلّ وجود وكلّ حركة وكلّ فعل في العالم يعود إلى ذاته المقدّسة، فهو مسبب الأسباب وعلة العلل. حتى الأفعال التي تصدر منّا هي في أحد المعاني صادرة عنه. فهو الذي منحنا القدرة والإختيار وحرية الإرادة. ومع أنّنا نفعل الأفعال بأنفسنا، وأنّنا مسؤولون تجاهها. فالفاعل من جهة هو اللّه سبحانه لأنّ كلّ ما عندنا يعود إليه: (لا مؤثر في الوجود إلاّ اللّه). 4 - التوحيد في العبادة: أي تجب عبادته وحده دون سواه، ولا يستحق العبادة غيره. لأنّ العبادة يجب أن تكون لمن هو كمال مطلق. ومطلق الكمال، لمن هو غني عن الآخرين، ولمن هو واهب النعم وخالق كلّ الموجودات وهذه صفات لا تجتمع إلاّ في ذات اللّه سبحانه. الهدف الأصلي للعبادة هو الإقتراب من ذلك الكمال المطلق، والوجود اللامتناهي، هو السعي لإنارة النفس بقبس من صفات كماله وجماله... وينتج عن ذلك الإبتعاد عن الأهواء والشهوات والإتجاه نحو بناء النفس وتهذيبها. هذا الهدف لا يتحقق إلاّ بعبادة اللّه، وهو الكمال المطلق. الثّالث: التوحيد الأفعالي توحيد الأفعال له بدوره فروع كثيرة نشير إلى ستة من أهمها: 1 - توحيد الخالقية والقرآن الكريم يقول: (قل اللّه خالق كلّ شيء) (3). ودليله واضح، فحين ثبت بالأدلة السابقة أنّ واجب الوجود واحد، وكلّ ما عداه ممكن الوجود، يترتب على ذلك أنّ خالق كلّ الموجودات واحد أيضاً. 2 - توحيد الربوبية أي إنّ اللّه وحده هو مدبّر العالم ومربّيه ومنظّمه. كما جاء في قوله تعالى: (قل أغير اللّه أبغي ربّاً وهو ربّ كلّ شيء). (4) دليل ذلك أيضاً وحدة واجب الوجود، وتوحيد الخالق في عالم الكون. 3 - التوحيد في التقنين والتشريع يقول سبحانه: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فاولئك هم الكافرون) (5). لما ثبت أنّه سبحانه هو المدير والمدبّر، فليس لأحد غيره حتماً صلاحية التقنين. إذ لا سهم لغيره في تدبير العالم كي يستطيع أن يضع قوانين منسجمة مع نظام التكوين. 4 - التوحيد في المالكية سواء "الملكية الحقيقية" أي السلطة التكوينية على الشيء، أم "الملكية الحقوقية" وهي السلطة القانونية على الشيء; فهي له سبحانه، كما يقول في كتابه العزيز: (وللّه ملك السموات والأرض) (6) ويقول سبحانه: (وانفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه) (7). والدليل على ذلك هو نفس الدليل على توحيد الخالقية، وحين يكون هو سبحانه خالق كلّ شيء فهو مالك كلّ شيء أيضاً. فكلّ ملكية يجب أن تستمد وجودها من مالكيته. 5 - توحيد الحاكمية لابدّ للمجتمع البشري من حكومة، لأنّ الحياة الإجتماعية تتطلب ذلك، فلا يمكن بدون حكومة أن تقسم المسؤوليات، وتنظم المشاريع، ويحال دون التعدي والتجاوز. ومن جهة اُخرى، مبدأ الحرية يقرر أن لا أحد له حق الحكومة على أحد، إلاّ إذا سمح بذلك المالك الأصلي والصاحب الحقيقي. من هنا فالإسلام يرفض كلّ حكومة لا تنتهي إلى الحكومة الإلهية ومن هنا أيضاً نرى شرعية الحكم للنّبي (ص) وللأئمّة المعصومين (ع) ثمّ للفقيه الجامع للشرائط بعدهم. ومن الممكن أن يجيز النّاس أحداً ليحكمهم. ولكنّ اتفاق النّاس بأجمعهم غير ممكن في مجتمع عادة، ولذلك لا يمكن إقامة مثل هذه الحكومة عملياً. (8) جدير بالذكر أن توحيد الربوبية يرتبط بعالم التكوين، وتوحيد التقنين يرتبط بعالم التشريع. يقول سبحانه: (إن الحكم إلاّ للّه) (9). 6 - توحيد الطاعة اللّه سبحانه هو وحده "واجب الإطاعة" في هذا الكون. وهو تعالى مصدر مشروعية إطاعة غيره. أي إنّ إطاعة غيره يجب أن تعدّ إطاعة له. دليل ذلك واضح أيضاً، حين تكون الحاكمية له دون سواه فيجب أن يكون هو المطاع دون غيره، ولذلك نحن نعتبر إطاعتنا للأنبياء (ع) والأئمّة المعصومين ومن ينوب عنهم هي انعكاس عن طاعتنا للّه. يقول تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (10). ويقول سبحانه: (من يطع الرسول فقد أطاع اللّه) (11). كلّ واحد من المواضيع المذكورة أعلاه تحتاج إلى شرح وتفصيل، ونحن نكتفي بهذه الخلاصة كي لا نخرج عن إطار هذا التّفسير. إلهي! ثبت أقدامنا على خط التوحيد ما حيينا. ربّنا! فروع الشرك مثل فروع التوحيد كثيرة ولا نجاة لنا من الشرك إلاّ بلطفك، فاشملنا بفضلك. إلهنا! اجعل حياتنا مع التوحيد، ومماتنا مع التوحيد، واحشرنا مع حقيقة التوحيد. آمين يا ربّ العالمين نهاية سورة الإخلاص ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أصله يكن أحد مكافئا له أي مماثلا.