لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي نهاية المطاف - في الآية الأخيرة مورد البحث - يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام، وإلى الأثر الحي الناطق عن المصير الأليم لأولئك الملوثين والمشركين، فيقول تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها). نعم، لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه، لكنّهم لم يأخذوا منها العبرة، ذلك لأنّهم (بل كانوا لا يرجون نشوراً). إنّهم يعدون الموت نهاية هذه الحياة، وإذا كان لهم اعتقاد بحياة ما بعد الموت فهو اعتقاد ضعيف وبلا أساس، لا يطبع أثراً في ارواحهم ولا ينعكس في مناهج حياتهم، ولهذا فهم يأخذون جميع الأشياء مأخذ اللعب، ولا يفكرون إلاّ بأهوائهم السريعة الزوال. بحثان 1 - من هم "أصحاب الرس" كلمة "رسّ" في الأصل بمعنى الأثر القليل، فيقال مثلا "رسّ الحديث في نفسي" (قليل من حديثه في ذاكرتي) أو يقال: وجد رسّاً من حمى" (يعني: وجد قليلا من الحمّى في نفسه).(3) وجماعة من المفسّرين اعتقدوا بأن "الرسّ" بمعنى البئر. على أية حال فتسمية هؤلاء القوم بهذا الاسم، إمّا لأنّ أثراً قليلا جداً بقي منهم، أو لأنّهم كانت لهم آبار كثيرة، أو لأنّهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم. أمّا من هم هؤلاء القوم؟ هناك أقوال كثيرة بين المؤرخين والمفسّرين: 1 - يرى كثيرون أن "أصحاب الرس" كانوا طائفة تعيش في "اليمامة" وبعث لهم نبي اسمه "حنظلة" كذبوه وألقوه في بئر، وذكروا أيضاً: إنّهم ملأوا هذا البئر بالرماح، وأغلقوا فم البئر بعد إلقاء النّبي فيها بالحجارة حتى استشهد ذلك النبي.(4) 2 - البعض الآخر يرى أن "أصحاب الرسّ" إشارة إلى قوم "شعيب" الذين كانوا يعبدون الأصنام، وكانوا ذوي أغنام كثيرة وآبار ماء، و"الرسّ" كان اسماً لبئر عظيم، حيث أغاضه الله، فأهلك أهل ذلك المكان. 3 - بعض آخر يعتقد أن "الرسّ" كانت قرية في أرض "اليمامة" حيث كان يعيش فيها جماعة من بقايا قوم ثمود، فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم. 4 - وذهب آخرون أنّهم كانوا جماعة من العرب الماضين، يعيشون(5) بين الشام والحجاز. 5 - بعض التفاسير يعرّف "أصحاب الرسّ" من بقايا عاد وثمود، ويعتبر (وبئر معطلة وقصر مشيد).(6) متعلقة بهم أيضاً، وذكر أن موطنهم في "حضرموت" واعتقد "الثعلبي" في "عرائس البيان" أن هذا القول هو الأكثر اعتباراً. البعض الآخر من المفسّرين طبقوا "الرس" على "أرس" (في شمال آذربيجان)! 6 - العلامة الطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في التّفسير الكبير، والآلوسي في روح المعاني نقلوا من جملة الإحتمالات، أنّهم قوم يعيشون في أنطاكية الشام، وكان نبيهم "حبيب النجار". 7 - في عيون أخبار الرضا، نقل حديث طويل حول "أصحاب الرس" خلاصته: "إنّهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر يقال لها (شاه درخت) كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها (روشن آب) وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له "الرسّ"، يسمين بأسماء: آبان، آذر، دي، بهمن أسفندار، فرودين، أُردي بهشت، خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، ومنها اشتقّ العجم أسماء شهورهم. وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبّة. أجروا عليها نهراً من العين التي عند الصنوبرة، وحرّموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم، ومن شرب منه قتلوه، ويقولون: إنّه حياة الآلهة فلا ينبغي لأحد أن ينقص حياتها. وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوماً - في كل قرية، عيداً، يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثمّ يحرقونها في النار فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها وسطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون، و الشيطان يكلمهم من الشجرة. وكان هذا دأبهم في القرى حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التي كان يسكنها ملكهم واسمها (أسفندار) اجتمع إليها أهل القرى جميعاً وعيّدوا اثني عشر يوماً، وجاءوا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة، وكلّمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر ممّا كان من الشياطين في سائر الأعياد من سائر الشجر. ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة، بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا، فدعاهم برهة إلى عبادة الله وترك الشرك، فلم يؤمنوا، فدعا على الشجرة فيبست، فلما رأوا ذلك ساءهم، فقال بعضهم: إنّ هذا الرجل سحر آلهتنا، وقال آخرون: إنّ آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب لآلهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئراً عميقاً وألقوه فيها، وسدّوا فوهتها، فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات، فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم".(7) قرائن متعددة تؤيد مضمون هذا الحديث، لأن مع وجود ذكر "أصحاب الرسّ" في مقابل عاد وثمود يكون احتمال أنّهم جماعة من هاتين الأُمتين بعيداً جداً. كذلك، فإنّ وجود هؤلاء القوم في الجزيرة العربية والشامات وتلك الحدود - و هو الذي احتمله الكثيرون - بعيد أيضاً، ذلك لأنّه يجب أن يكون له انعكاس في تاريخ العرب بحسب العادة، في الوقت الذي لم نر حتى انعكاساً ضئيلا لأصحاب الرس لديهم. مضافاً الى ذلك توافقه مع كثير من التفاسير الأُخرى، من جملتها: أنّ "الرس" كان اسماً لبئر (البئر التي ألقوا فيها نبيهم) أو أنّهم كانوا أصحاب زراعة ومواشي وأمثال ذلك. و ما ورد في رواية عن الإمام الصادق(ع): أنّ نساءهم كن منحرفات جنسياً و يمارسن "المساحقة" لا منافاة له مع هذا الحديث أيضاً(8) و من عبارة (نهج البلاغة، الخطبة 180) يستفاد أنه كان لهم أكثر من نبيّ واحد فقط، لأنّه(ع) يقول: "أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيّين، وأطفأوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين!؟". و كلام أمير المؤمنين(ع) هذا لا يتنافى مع الرواية أعلاه، لأنّ من الممكن أن الرواية تشير إلى مقطع من تاريخهم وكان قد بعث نبي فيهم. 2 - مجموعة من الدروس المؤثرة: ست فئات في الآيات أعلاه، ذكرت أسماؤهم: قوم فرعون قوم نوح المتعصبون، قوم عاد المتجبرون، ثمود، أصحاب الرس، وقوم لوط، حيث كان كل منهم أسير نوع من الإنحراف الفكري والأخلاقي أدّى بهم إلى الهلاك والشقاء. الفراعنة كانوا ظالمين جائرين ومستعمرين واستثماريين وأنانيين. قوم نوح كما هو معلوم كانوا معاندين ومتكبرين ومغرورين. قوم عاد وقوم ثمود كانوا يتكلون على قدراتهم الذاتية. و كان أصحاب الرس في دوامة الفساد والشذوذ الجنسي وخاصّة نسائهم، وكان قوم لوط غارقين في وحل من الفحشاء، وشذوذ الرجال بخاصّة، والجميع منحرفون عن جادة التوحيد. حيرى في الضلالات. و هنا يريد القرآن أن يُنذر مشركي عصر النّبي(ص) وجميع الناس على مدى التاريخ: ليكن لكم من القدرات والإستطاعة والإمكانات كل شيء ومهما كان لكم من اموال وثروات وحياة مرفّهة، فإن التلوث بالشرك والظلم والفساد سيستأصل أعماركم، وإنّ نفس أسباب تفوقكم تلك ستكون أسباب هلاككم! قوم فرعون: وقوم نوح، أُهلكوا بالماء الذي هو أساس الحياة، قوم عاد بالعاصفة والرياح التي هي أيضاً في ظروف خاصّة أساس الحياة، قوم ثمود بالسحاب الحامل للصواعق، وقوم لوط بمطر من الحجارة نزل بعد الصاعقة، أو انفجار بركان على قول بعضهم، وأصحاب الرس طبقاً لذيل تلك الرواية أعلاه، أُبيدوا بنار تطلع من الأرض، وبشعلة مهلكة انتشرت من السحاب، ليؤوب هذا الإنسان المغرور إلى نفسه، فيتمسك بطريق الله والعدالة والتقوى. ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا﴾ أو مر قريش ﴿عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ﴾ الحجارة وهي سدوم من قرى قوم لوط ﴿أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا﴾ في مرورهم فيعتبرون ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ لا يتوقعون بعثا لكفرهم ولذا لم يعتبروا أو لا يأملونه كما يأمله المؤمنون للثواب أو لا يخافونه.