لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير: اُسوة للجميع: إنّ منهج القرآن (من أجل التأكيد على تعاليمه القيّمة) يعتمد في كثير من الموارد طريقة الإستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة، وبعد التشديد السابق الذي مرّ بنا خلال آيات السابقة في تجنّب عقد الولاء لأعداء الله، يتحدّث القرآن الكريم عن إبراهيم (ع) ومنهجه القدوة كنموذج رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصاً العرب منهم. قال تعالى: (قد كانت لكم اُسوة حسنة في إبراهيم والذين معه)(1). إنّ حياة إبراهيم (ع) الذي هو كبير الأنبياء، تلهمنا دروس العبودية لله، والطاعة والجهاد في سبيله، والوله والحبّ لذاته المقدّسة، إنّ هذا النبي العظيم الذي كانت الاُمّة الإسلامية من بركة دعائه، وهي معتزّة بالتسمية التي أطلقها عليهم، هو لكم اُسوة حسنة في هذا المجال. والمراد من تعبير (الذين معه) هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلّة عددهم، وهنا رأي آخر في تفسير (الذين معه) يرى أنّ المقصود هم الأنبياء الذين كانوا يشاركونه بالرأي، أو أنّ المقصود هم الأنبياء المعاصرون له، وهو إحتمال مستبعد، خاصّة إذا أخذنا ما يناسب المقام في تشبيه القرآن الكريم لرسول الإسلام محمّد بإبراهيم (ع)، وتشبيه المسلمين بأصحابه وأعوانه. وجاء في التواريخ أيضاً أنّ جماعة في "بابل" آمنوا بإبراهيم (ع) بعد مشاهدة المعاجز التي ظهرت على يديه، وصاحبوه في الهجرة، قال ابن الأثير في الكامل (ثمّ إنّ إبراهيم والذين اتّبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم فخرج مهاجراً)(2). ثمّ يضيف سبحانه لتوضيح هذا المعنى: (إذ قالوا لقومهم إنّا براءوا منكم وممّا تعبدون من دون الله)(3). وهكذا يكون الموقف القاطع والحاسم من جانب المؤمنين إزاء أعداء الله، بقولهم لهم: إنّنا لا نرتضيكم ولا نقبلكم، لا أنتم ولا ما تؤمنون به من معتقدات، إنّنا نبتعد وننفر منكم ومن أصنامكم التي لا قيمة لها. ومرّة اُخرى يؤكّدون مضيفين: "كفرنا بكم"، والكفر هنا هو كفر البراءة الذي اُشير له في بعض الروايات ضمن ما ورد في تعدّد أقسام الكفر الخمسة(4). ويضيفون للمرّة الثالثة مؤكّدين بصورة أشدّ: (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتّى تؤمنوا بالله وحده). وبهذا الإصرار وبهذه القاطعية وبدون أي تردّد أو مواربة يعلن المؤمنون إنفصالهم وإبتعادهم ونفرتهم من أعداء الله حتّى يؤمنوا بالله وحده، وهم مستمرّون في موقفهم وإلى الأبد ولن يتراجعوا عنه أو يعيدوا النظر فيه إلاّ إذا غيّر الكفّار مسارهم وتراجعوا عن خطّ الكفر إلى الإيمان. ولأنّ هذا القانون العامّ كان له إستثناء في حياة إبراهيم (ع) يتجسّد ذلك بإمكانية هداية بعض المشركين حيث يقول سبحانه معقّباً: إنّ هؤلاء قطعوا كلّ إرتباط لهم مع قومهم الكافرين حتّى الكلام الودود والملائم: (إلاّ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من الله من شيء). إنّ هذا الإستثناء - في الحقيقة - كان في مسألة قطع كلّ إرتباط مع عبدة الأصنام من قبل إبراهيم (ع) وأصحابه، كما أنّ هذا الإستثناء كانت له شروطه ومصلحته الخاصّة، لأنّ القرائن تظهر لنا أنّ إبراهيم (ع) كان يرى في عمّه (آزر) إستعداداً لقبول الإيمان. ولمّا كان (آزر) قلقاً من آثام سابقته الوثنية وعبادته للأصنام أوعده إبراهيم (ع) أنّه إذا تبنّى طريق التوحيد فإنّه (ع) سيستغفر له الله سبحانه، وقد عمل بما وعده به، إلاّ أنّ آزر لم يؤمن وبقي على ضلاله، وعندما اتّضح لإبراهيم أنّه عدوّ الله وسوف لن يؤمن أبداً، لم يستغفر له ثانية وقطع علاقته به. ولمّا كان المسلمون مطّلعين على منهج إبراهيم (ع) في تعامله مع "آزر" بصورة إجمالية، فقد كان من المحتمل أن يكون هذا الموقف موضع إحتجاج لأشخاص مثل (حاطب بن أبي بلتعة) حيث كانوا يقيمون العلاقات والإرتباطات السريّة مع الكفّار، ولهذا فالقرآن الكريم يقطع الطريق على مثل هذه التصوّرات ويعلن - صراحةً - أنّ هذا الإستثناء قد تمّ تحت شروط خاصّة، وكان اُسلوباً لإستدراج (آزر) إلى الهدى وإدخاله في الإيمان، ولم يكن لأهداف دنيوية آنية أو مصلحة وقتية، لذا يقول عزّوجلّ في بيان هذا المعنى: (وما كان إستغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدو الله تبّرأ منه إنّ إبراهيم لأوّاه حليم)(5). إلاّ أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا الأمر كان استثناءً من التأسّي بـ (إبراهيم)، وقالوا يجب الإقتداء به في جميع الاُمور إلاّ في إستغفاره لعمّه آزر. إلاّ أنّ هذا المعنى بعيداً جدّاً لأنّه: أوّلا: كان (ع) اُسوة في جميع الاُمور ومن ضمنها إتّباع هذا المنهج، وذلك بلحاظ أنّ الشروط التي توفّرت في (آزر) توفّرت أيضاً في بعض المشركين وعند ذلك لابدّ من إظهاره المودّة لهم وتهيئة الأجواء الطيّبة لهم، وجذبهم للإيمان. وثانياً: أنّ إبراهيم (ع) نبي معصوم من أنبياء الله العظام ومن المجاهدين اللامعين، وأعماله كلّها اُسوة للمؤمنين، وعندئذ لا داعي لإستثناء هذه المسألة من التأسّي به فيها. وخلاصة القول أنّ إبراهيم (ع) وأصحابه كانوا من أشدّ المخالفين والمحاربين للشرك، ولابدّ لنا من الإقتداء بهم وأخذ الدروس والعبر من سيرتهم، بما في ذلك ما يتعلّق بموقفه من "آزر" إذا توفّرت لنا نفس الشروط والخصوصيات ...(6). وبما أنّ محاربة أعداء الله، والصرامة والشدّة معهم - خصوصاً مع تمتّعهم بقدرة ظاهرية - سوف لن تكون فاعلة إلاّ بالتوكّل على الله تبارك وتعالى، يضيف سبحانه في نهاية الآية: (ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير). ونلاحظ ثلاثة اُمور في هذه العبارة: الأمر الأوّل: هو التوكّل. الثاني هو: التوبة والإنابة. الثالث: التأكيد على حقيقة الرجوع النهائي في كلّ شيء إليه سبحانه، حيث أنّ كلّ أمر من هذه الاُمور يكون علّة وبنفس الوقت معلولا للآخر، فالإيمان بالمعاد والرجوع النهائي إليه سبحانه يوجب التوبة، والتوبة تحيي روح التوكّل في النفس الإنسانية(7). ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ﴾ بكسر الهمزة وضمها في الموضعين قدوة ﴿حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ ممن آمن به ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء﴾ جمع بريء كشريف وشرفاء ﴿مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ﴾ أنكرناكم وءالهتكم ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ لا تشركوا به شيئا ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ مستثنى من أسوة كأنه قيل تأسوا بأقواله إلا استغفاره للكافر فإنه كان قبل النهي أو قبل تبيين عداوته لله ﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ أمر للمؤمنين بأن يقولوا ذلك أو هو من تتمة قول إبراهيم ومن معه أي وقالوا.