التّفسير:
مودّة الكفّار غير الحربيين:
يستمرّ الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت في الآيات السابقة حول "الحبّ في الله والبغض في الله" وقطع العلاقة مع المشركين، بالرغم من أنّ قطع هذه الرابطة يولّد فراغاً عاطفياً بالنسبة للبعض من
المسلمين، فإنّ المؤمنين الصادقين، وأصحاب رسول الله المخلصين آمنوا بهذا المنهج وثبتوا عليه، والله تعالى بشّر هؤلاء ألاّ يحزنوا، لأنّ الثواب هو جزاؤهم بالإضافة إلى أنّ هذه الحالة سوف لن تستمرّ طويلا، حيث يقول سبحانه: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودّة).
ويتحقّق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث منّ الله على المسلمين بفتح مكّة، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام الحنيف، مصداقاً لقوله تعالى: (يدخلون في دين الله أفواجاً) وعند ذلك تتبدّد غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان وحرارة الودّ وأجواء المحبّة والصداقة.
بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية إشارة إلى زواج الرّسول الأكرم (ص) من (اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان) التي كانت قد أسلمت وصحبت زوجها "عبيدالله بن جحش"(1) في هجرته للحبشة مع المهاجرين ومات زوجها هناك، فأرسل رسول الله (ص) شخصاً إلى النجاشي وتزوّجها، ولأنّ الزواج بين القبائل العربية كان له تأثير في تضييق دائرة العداء وبناء جسور المودّة بينهم، وهذه المسألة كان لها تأثير إيجابي على أبي سفيان وأهل مكّة.
إلاّ أنّ هذا الإحتمال مستبعد، لأنّ هذه الآيات نزلت عندما كان المسلمون على أبواب فتح مكّة، ولأنّ "حاطب بن أبي بلتعة" كان يروم من إرسال رسالته إلى مشركي مكّة إحاطتهم علماً بعزم الرّسول على فتح مكّة، في الوقت الذي نعلم أنّ "جعفر بن أبي طالب" وأصحابه رجعوا إلى المدينة قبل فتح مكّة (فتح خيبر)(2).
وعلى كلّ حال، إذا تباعد بعض الناس عن خطّ الإسلام والمسلمين وكانت تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس، لأنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم، فهو الذي يغفر الذنوب والخطايا لعباده، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية: (والله قدير والله غفور رحيم).
كلمة (عسى) تستعمل عادةً في الموارد التي يؤمل فيها أن يتحقّق شيء ما، وبما أنّ هذا المعنى يستعمل أحياناً توأماً مع (الجهل) أو (العجز) فإنّ كثيراً من المفسّرين فسّروها بمعنى رجاء الآخرين من الله وليس العكس، إلاّ أنّنا لا نرى تعارضاً في أن يكون لهذا المصطلح المعنى الأصلي، وذلك لأنّ الوصول إلى هدف معيّن لابدّ له في أحيان كثيرة من وجود الشروط المناسبة، وإذا لم تستكمل هذه الشروط فإنّ هذه الكلمة تستعمل في مثل هذه الموارد.
﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ﴾ على ذلك ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بكم.