سبب النزول
نزل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عدد من المسلمين أرض الحديبية - وهم في طريقهم إِلى مكّة - فسمعت قريش بذلك فبعثت بخالد بن الوليد على رأس زمرة من مئتي شخص لإِعتراض طريق النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين الذين معه ومنعهم من الوصول إِلى مكّة، فاستقرّ خالد والذين رافقوه في الجبال القريبة من مكة.
ولما كان موعد صلاة الظهر، أذن بلال، فصلّى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين جماعة، فشاهد خالد بن الوليد صلاة المسلمين ففكر في خطّة للهجوم على المسلمين، وأخبر جماعته أن يغتنموا فرصة أداء المسلمين لصلاة العصر التي يعتبرونها أعزّ عليهم من أعينهم، فيباغتونهم بهجوم خاطف وهم في الصّلاة ويقضون عليهم.
وفي هذه الأثناء نزلت الآية بحكم صلاة الخوف التي تصون المسلمين من كل هجوم خاطف.
وهذه الآية إِحدى معاجز القرآن الكريم حيث أخبرت عن وقوع هجوم قبل قيام العدو بتنفيذه وبذلك أفشلت خطة العدو، ويقال بأنّ خالداً أعلن إِسلامه حال مشاهدته لذلك المشهد بعينه.
التّفسير
بعد آيات الجهاد السابقة تبيّن هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي تؤدى في ساحة الحرب، فتخاطب الآية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: (وإِذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم...) فإِذا سجدت جماعة وانقضت الركعة الأُولى من الصّلاة، على النّبي أن يقف في مكانه فتؤدي الجماعة - سريعاً - الركعة الثّانية وتعود إِلى ساحة القتال لمواجهة العدو.
وتأتي بعد ذلك الجماعة الثّانية التي لم تصل بعد، وتأخذ مكان الجماعة الأُولى فتصلّي مع النّبي: (فإِذا سجدوا فليكونوا من روائكم ولتأت طائفة أُخرى لم يصلّوا فليصلّوا معكم...) وعلى الجماعة الثّانية أن لا تضع أرضاً لامة حربها، بل تحتفظ بها معها: (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم...).
وتشير الآية إِلى أنّ أداء الصّلاة بهذا الأُسلوب من أجل أن يبقى المسلمون في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم، لأنّه يتحين الفرص دائماً لتنفيذ هذا الهجوم، ويتمنى لو تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم ليشنّ عليهم حملته الغادرة: (ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة...).
ولما كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الأُخرى صعباً أثناء أداء الصّلاة في بعض الأحيان مثل أن يكون بعض المسلمين يعانون من ضعف بدني أو مرضي أو جراحات تحملوها من ساحة القتال، فيشق عليهم بذلك حمل السلاح أو وسائل الدفاع الأخرى، لذلك تأمر الآية في الختام قائلة: (ولا جناح عليكم إِن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم).
وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع، وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض، وذلك لحماية أنفسهم إِذا باغتهم العدو بهجومه إِلى أن تصلهم الإِمدادات حيث تقول الآية:(وخذواحذركم...).
وهنا عدّة ملاحظات جديرة بالإِنتباه، هي:
1 - واضح أنّ الهدف من وجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين في حال إِقامة صلاة الخوف، لا يعني أنّ هذه الصّلاة لا تقام إِلاّ بوجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل القصد والهدف هنا في الآية هو أن يكون للمقاتلين والمجاهدين إِمام أو قائد يتقدمهم ويؤمهم في صلاة الجماعة أثناء الحرب، ومن هذا المنطلق نرى الإِمام علي والإِمام الحسين(عليهما السلام) قد أقاما صلاة الخوف، كما أنّ العديد من قادة الجيوش الإِسلامية كحذيفة قد قاموا بهذه العبادة الإِسلامية في ساعات الضرورة(1).
2 - والآية تأمر المجموعة الأُولى بأن تحتفظ بسلاحها أثناء أداء صلاة الخوف، لكنها تقول للمجموعة الثّانية أن لا تلقي أرضاً بوسائلها الدفاعية كالدروع والأسلحة الأُخرى.
ومن المحتمل أن يكون الفرق بين هاتين المجموعتين هو أنّ العدو قد لا يكون على علم بعد بخطة المسلمين أثناء أداء المجموعة الأُولى لصلاتها، وفي هذه الحالة يكون احتمال هجوم العدو على المسلمين ضعيفاً، أمّا بالنسبة للمجموعة الثانية - حين - ينتبه العدو لمراسم الصّلاة فيكون هجومه على يالمسلمين أكثر احتما.
3 - إِنّ القصد من الإِحتفاظ بالمتاع
المطلوب من المسلمين في الآية - موضوع البحث - هو أن يراقب المسلمون وسائلهم الأُخرى الحربية والشخصية والغذائية والحيوانات التي جلبوها لتكون غذاء لهم، بالإِضافة إِلى الدفاع عن أنفسهم.
4 - من الواضح أنّ أداء الصّلاة جماعة ليست واجبة في الإِسلام، لكنّها من المستحبات المؤكدة كثيراً، وهذا الآية تعتبر أحد الأدلة الحية على التأكيد بالنسبة لأهمية مراسيم صلاة الجماعة في الإِسلام، بحيث إنّ هذه الصّلاةـصلاةالجماعةـتقام حتى في ساحة الحرب بالإِستفادة من أسلوب وطريقة صلاة الخوف، ويستدل من هذا الموضوع على أهمية الصّلاة نفسها بالإِضافة إِلى أهمية إِقامتها جماعة.
ومن الطبيعي أن يكون لصلاة الجماعة تأثير نفسي ومعنوي على المقاتلين من زاوية التنسيق في الهدف، كما أنّ لها تأثير على العدو - أيضاً - حين يرى أنّ المسلمين حتى وهم في ساحة القتال يهتمون بواجباتهم الدينية.
كيفية صلاة الخوف:
لا يبدو في الآية - موضوع البحث - التوضيح اللازم لكيفية أداء صلاة الخوف.
وهذا هو أُسلوب القرآن إِذ يبيّن كليات الحكم، ويترك شرح الأحكام إِلى السنّة الشريفة.
وطريقة أداء صلاة الخوف - كما توضحها السنّة - هي أن تتحول الصّلاة يالرباعية إِلى صلاة ثنائية، أي تحويل صلاة الظهر أو العصر مث التي هي أربع ركعات في كل منهما إِلى صلاة بركعتين، فتصلي المجموعة الأُولى ركعة واحدة مع الإِمام، ثمّ يتوقف الإِمام بعد أداء الركعة الأُولى فتؤدي المجموعة الأُولى الركعة الثانية فرادى، ثمّ تعود إِلى جبهة القتال، فتأتي المجموعة الثانية لتأخذ مكان المجموعة الأُولى خلف الإِمام، فتؤدي الركعة الأُولى جماعة مع الإِمام وتؤدي الركعة الثّانية فرادى (وقد رودت طرق أُخرى لأداء صلاة الخوف، ولكن أشهرها الطريقة التي تحدثنا عنها هنا).
﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ﴾ في الخائفين ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ﴾ بأن تؤمهم ﴿فَلْتَقُمْ﴾ في الركعة الأولى ﴿طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ﴾ وتقوم الأخرى تجاه العدو ﴿وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ﴾ لأنه أقرب إلى الاحتياط ﴿فَإِذَا سَجَدُواْ﴾ سجدة الركعة الأولى فصلوا لأنفسهم ركعة أخرى ﴿فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ﴾ وقفوا موقف أصحابهم يحرسونهم ﴿وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ﴾ ركعتهم الأولى ﴿مَعَكَ﴾ وأنت في الثانية فإذا صلت قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك ﴿وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ﴾ تيقظهم ﴿وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ أي تمنوا أن يجدوا منكم غرة في الصلاة ﴿فَيَمِيلُونَ﴾ فيحملون ﴿عَلَيْكُم مَّيْلَةً﴾ حملة ﴿وَاحِدَةً﴾ ولذا أمرتم بأخذ السلاح ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى﴾ فيثقل عليكم حمل السلاح ﴿أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ﴾ يدل على أن الأمر بأخذ الأسلحة للوجوب ﴿وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ احترزوا إذ ذاك من عدوكم ﴿إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ لما كان أمرهم بالحزم يوهم أنه لضعفهم وغلبة الكفار بل أزال الوهم بوعدهم أن الله يهين عدوهم وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم.