الجواب القرآني الثّاني على مقولاتهم ورد في الآية التي بعدها، موجهاً الخطاب إلى النّبي(ص) على سبيل المواساة وتسلية الخاطر، وأيضاً على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النّبي من قبل أُولئك، فيقول: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه (أفأنت تكون عليه وكيلا).
يعني إذا وقف أُولئك أمام دعوتك بالإستهزاء والإنكار وأنواع المخالفات، فلم يكن ذلك لأن منطقك ضعيف ودلائلك غير مقنعة، وفي دينك شك أو ريبة، بل لأنّهم ليسوا أتباع العقل والمنطق، فمعبودهم أهواؤهم النفسية، تُرى أتنتظر أن يطيعك هكذا أشخاص، أو تستطيع أن تؤثر فيهم!؟
أقوال مختلفة للمفسرين الكبار في معنى جملة: (أرأيت من اتّخذ إلهة هواه):
قال جماعة - كما قلنا آنفاً - : إنّ المقصود أنّ لهم صنماً، ذلك هو هواهم النفسي، وكل أعمالهم تصدر من ذلك المنبع.
في حين أنّ جماعة أُخرى ترى أنّ المراد هو أنّهم لا يراعون المنطق بأي شكل في اختيارهم الأصنام، بل إنّهم متى ما كانت تقع أعينهم على قطعة حجر، أو شجرة جذابة، أو شيء آخر يثير هواهم، فإنّهم يتوهمونه "معبوداً"، فكانوا يجثون على ركبهم أمامه، ويقدمون القربان، ويسألونه حل مشكلاتهم.
وذكر في سبب نزول هذه الآية رواية مؤيدة لهذا المعنى، وهي أن إحدى السنين العجاف مرّت على قريش، فضاق عليهم العيش، فخرجوا من مكّة وتفرقوا فكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو حجراً حسناً هويه فعبده، وكانوا ينحرون النعم ويلطخونها بالدم ويسمونها "سعد الصخرة"، وكان إذا أصابهم داء في إبلهم أغنامهم جاؤوا إلى الصخرة فيمسحون بها الغنم والإبل، فجاء رجل من العرب بإبل يريدُ أن يمسح بالصخرة إبله ويتبرك بها، فنفرت إبله فتفرقت، فقال الرجل شعراً:
أتيتُ إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فما نحن من سعدِ
وما سعدِ إلاّ صخرة مستوية من الأرض لا تهدي لغيٍّ ولا رشدِ
و مرَّ به رجل من العرب والثعلب يبول عليه فقال شعراً:
وربّ يبول الثعلبانُ برأسه لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالب(3) التّفسيران أعلاه لا منافاة بينهما، فأصل عبادة الأصنام - التي هي وليدة الخرافات - هو اتباع الهوى، كما أنّ اختيار الأصنام المختلفة بلا أي منطق، فرع آخر عن أتباع الهوى أيضاً.
وسيأتي بحث مفصل في الملاحظات الآتية، بصدد "اتباع الهوى والشهوات" إن شاء الله.
﴿أَرَأَيْتَ﴾ أخبرني ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ لطاعته له في دينه وقدم المفعول الثاني عناية به ﴿أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ حافظا تجبره على الإسلام.