لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثّالث لهذه الفئة الضالة، هو قوله: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلا). يعني لا يؤذينك استهزاؤهم ومقولاتهم السيئة وغير المنطقية أبداً، لأنّ الانسان إمّا أن يكون ذا عقل، ويستخدم عقله، فيكون مصداقاً لـ "يعقلون". أو أنّه فاقد للعلم ولكنّه يسمع قول العلماء، فيكون مصداقاً لـ "يسمعون"، لكن هذه الفئة لا من أُولئك ولا من هؤلاء، وعلى هذا فلا فرق بينهم وبين الانعام. وواضح أنّه لا يتوقع من الأنعام غير الصياح والرفس والأفعال اللامنطقية. بل هم أتعس من الأنعام وأعجز، إذ أن الأنعام لا تعقل ولا فكر لها، وهؤلاء لهم عقل وفكر، وتسافلوا إلى حال كهذه. المهم هو أنّ القرآن يعبّر بـ "أكثرهم" هنا أيضاً، فلا يعمم هذا الحكم على الجميع، لأنّه قد يكون بينهم أفراد مخدوعون واقعاً، وحينما يواجهون الحق تنكشف عن أعينهم الحجب تدريجياً، فيتقبلوا الحق، وهذا نفسه دليل على أن القرآن يراعي الإنصاف في المباحث القرآنية. بحثان 1 - اتباع الهوى وعواقبه الأليمة لا شك أنّ في كيان الإنسان غرائز وميولا مختلفة، وجميعها ضروري لإدامة حياته، الغيظ والغضب، حب النفس، حب المال والحياة المادية، وأمثالها، ولا شك أنّ مبدع الوجود خلقها جميعاً لذلك الهدف التكاملي. لكن المهم هو أنّها تتجاوز حدها أحياناً، وتخرج عن مجالها، وتتمرّد على كونها أداة طيعة بيد العقل، وتصرُّ على العصيان والطغيان، فتسجن العقل، وتتحكم بكل وجود الإنسان، وتأخذ زمام اختياره بيدها. هذا هو ما يعبرون عنه بـ "اتباع الهوى" الذي هو أخطر أنواع عبادة الأصنام، بل إن عبادة الأصنام تنشأ عنه أيضاً، فليس عبثاً أن الرّسول الأكرم(ص) اعتبر صنم "الهوى" أعظم وأسوأ الأصنام، لذا قال: "ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوىً متبع"،(4) ونقرأ في حديث آخر عن بعض أئمّة الإِسلام "أبغض إله عُبد على وجه الأرض الهوى". وإذا تأملنا جيداً في أعماق هذا القول، نعلم جيداً لماذا كان اتباع الهوى مصدر الغفلة، كما يقول القرآن: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه).(5) و من جهة أُخرى فإن اتباع الهوى منبع الكفر وعدم الإيمان، كما يقول القرآن (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه).(6) و من جهة ثالثة فإنّ اتباع الهوى أسوأ الضلال، يقول القرآن الكريم: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله).(7) و من جهة رابعة فإن اتباع الهوى نقطة مقابلة لطلب الحق، ويخرج الإنسان عن طريق الله، كما نقرأ في القرآن: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).(8) و من جهة خامسة فإن اتباع الهوى مانع من العدل والإنصاف كما نقرأ في القرآن: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا).(9) و أخيراً، فإنّ نظام السماء والأرض إذا دار حول محور أهواء وشهوات الناس، فإنّ الفساد سوف يعمُّ كلَّ ساحة الوجود: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن).(10) وفي الروايات الإسلامية أيضاً، نلاحظ تعبيرات مؤثرة في هذا الصدد: نقرأ في رواية عن على(ع): "الشقي من انخدع لهواه وغروره".(11) وفي حديث آخر عنه(ع) ، نقرأ أن: "الهوى عدو العقل".(12) نقرأ أيضاً: "الهوى أُسُّ المحن".(13) و عنه(ع): "لا دين مع هوى"(14) و"لا عقل مع هوى".(15) والخلاصة أن اتباع الهوى ليس من الدين وليس من العقل، وليس عاقبة اتباع الهوى إلاّ التعاسة والمحن والبلاء، ولا يثمر إلاّ المسكنة والشقاء والفساد. أحداث حياتنا والتجارب المرّة التي رأيناها في أيّام العمر بالنسبة إلينا وإلى الآخرين، شاهد حي على جميع النكات التي وردت في الآيات والرّوايات أعلاه بصدد اتباع الهوى. نرى أفراداً يتجرعون المرارة إلى آخر أعمارهم، جزاء ساعة واحدة من أتباع الهوى. و نعرف شباباً صاروا أسارى مصيدة الإِدمان الخطير، والإِنحرافات الجنسية و الأخلاقية، على أثر انقيادهم للهوى، بحيث تحولوا إلى موجودات ذليلة لا قيمة لها، وفقدوا كل قواهم وطاقاتهم الذاتية. في التأريخ المعاصر والماضي، نلتقي بأسماء الذين قتلوا آلافاً وأحياناً ملايين من الناس الأبرياء، من أجل أهوائهم، بحيث أن الاجيال تذكر أسماءهم المخزية بالسوء إلى الأبد. هذا الأصل لا يقبل الإستثناء، فحتى العلماء والعبابدون أهل السابقة مثل (بلعم بن باعورا) سقطوا من قمة العظمة الإنسانية إلى الهاوية، نتيجة انقيادهم لهوى النفس، حيث يمثلهم القرآن بالكلب النجس الذي لا ينفك عن النباح (الآية 176 سورة الأعراف). لهذا فلا عجب أن يقول النّبي(ص) وأمير المؤمنين(ع): "إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان، اتباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة".(16) وردت أيضاً في النقطة المقابلة - يعني ترك أتباع الهوى - آيات وروايات توضح عمق هذه المسألة من وجهة نظر الإسلام، إلى حد أن يُعدّ مفتاح الجنّة الخوف من الله، ومجاهدة النفس: (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنّة هي المأوى).(17) يقول علي(ع): "أشجع الناس من غلب هواه".(18) و قد نقلت قصص كثيرة في حالات محبي الحق وأولياء الله، والعلماء والعظماء، حيث نالوا المقامات العالية نتيجة ترك أتباع الهوى، هذه المقامات لم تكن ممكنة بالطرق العادية. 2 - لماذا أَضلُّ من الأنعام!؟ لتجسيد أهمية الموضوع في الآيات أعلاه، يبيّن القرآن أوّلا: أن الذين اتّخذوا اهواءهم آلهه يعبدونها هم كالأنعام، وبعد ذلك يضيف مشدداً: بل هم أضل! نظير هذا التعبير ورد أيضاً في الآية (172) من سورة الأعراف في أهل النار الذين يؤولون إلى هذا المصير نتيجة عدم الإستفادة من السمع والبصر والعقل، يقول تعالى: (أُولئك كالأنعام بل هم أضل). (أضل) و إن كانت واضحة إجمالا، لكن المفسّرين قدموا بحوثاً جيدة في هذه المسألة، وهي - مع تحليل وإضافات: 1 - إذا لم تفهم الأنعام شيئاً، وليس لها أذن سامعة وعين باصرة، فذلك لعدم استعدادها الذاتي، لكن الأعجز منها الإِنسان الذي تكمن في وجوده خميرة جميع السعادات، والذي أفاض الله عليه قدراً عظيماً من الإستعدادات ليستطيع أن يكون خليفة الله في الأرض، ولكن أفعاله الذميمة بلغت به حدّاً أسقطته عن مستوى الأنعام، وأذهبت كل لياقاته هدراً، وهوى مِن رتبة مسجود الملائكة إلى حضيض الشياطين الذليلة. وهذا هو الأضل والمؤلم حقاً. 2 - الأنعام غير مسؤولة تقريباً، وليست مشمولة بالجزاء الإلهي، في حين أنّ البشر الضالين يجب عليهم أن يحملوا عبء كل أعمالهم على عواتقهم، ليروا جزاء أعمالهم بلا نقص أو زيادة. 3 - تؤدي الأنعام للإنسان خدمات كثيرة، وتنجز له أعمالا مختلفة، أمّا طغاة البشر العصاة فلا تتأتى منهم أية منفعة، بل يسببون آلافاً من البلاءات والمصائب. 4 - الأنعام لا خطر منها على أحد، فإذا كان ثمّة خطر منها، فخطر محدود، لكن الويل من الإنسان غير المؤمن، والمستكبر، عابد الهوى، الذي يؤجج أحياناً نار حرب يذهب ضحيتها الملايين من الناس. 5 - إذا لم يكن للأنعام قانون ومنهج، فإنّها تتبع مساراً عيّنه الله لها على شكل غرائز، فهي تتحرك على ذلك الخط. أمّا الإنسان المتمرد، فلا يعترف بقوانين تكوينية ولا قوانين تشريعية، ويعتبر هواه وشهواته حاكماً على كل شيء. 6 - الأنعام لا تبرير لديها لأعمالها أصلا، فإذا خالفت فهي المخالفة، وإذا أرادت أن تمضي في طريقها حين تمضي فذلك هو الواقع، أمّا الإنسان المتكبر السفاك، عابد الهوى فكثيراً ما يبرر جميع جرائمه بالشكل الذي يدعي فيه أنّه يؤدي مسؤولياته الإلهية والإنسانية. ولهذها، فلا موجود أكبر خطراً وأشد ضرراً من إنسان متبع للهوى، عديم الايمان ومتمرد ولهذا وصمته الآية (22) من سورة الأنفال بلقب (شر الدواب) وكم هو مناسب هذا اللقب؟!! ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ﴾ سماع تفهم ﴿أَوْ يَعْقِلُونَ﴾ يتدبرون ما نأتي به من الحجج وخص الأكثر إذ فيهم من يعقل ﴿إِنْ﴾ ما ﴿هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ في عدم تفهم قولك وتدبر حججك ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ منها لأنها تعرف المحسن إليها من المسيء وتطلب المنافع وتجنب المضار وهؤلاء لا يعرفون إحسان ربهم من إساءة الشيطان.