بعد ذكر نعمة الظلال، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين أُخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود الله، يقول تعالى: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً).
كم هو تعبير جميل ورائع (جعل لكم الليل لباساً)... هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم، أو لإيجاد الظلام.
ثمّ يشير تعالى إلى نعمة النوم (و النوم سباتاً).
"السبات" في اللغة من "سبت" (على وزن وقت) بمعنى القطع، ثمّ جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة، ولذا فإنّ أوّل أيّام الأسبوع يسمّونه في لغة العرب "يوم السبت" وهي تسمية أُخذت من طريقة اليهود، لأنّه يوم تعطيلهم.
هذا التعبير - في الحقيقة - إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم، لأنّنا نعلم أن قسماً مهماً من الأفعال البدنية يتوقف كلياً في حال النوم، وقسماً آخر مثل عمل القلب وجهاز التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جدّاً، ويستمر بصورة أكثر هدوءً كيما يرتفع التعب وتتجدد القوى.
النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه، مجدد لجميع طاقات البدن، وباعث للنشاط والقوّة، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب، بعكس الأرق خصوصاً لفترة طويلة - فهو ضارٌ جدّاً وقد يؤدي الى الموت أيضاً. ولهذا فإنّ قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة الإنسان بسرعة.
وفي ختام الآية، أشار تعالى إلى نعمة "النهار" فقال تعالى: (وجعل النهار نشوراً).
كلمة "النشور" في الأصل من النشر بمعنى البسط، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع، والحركة للمعاش على وجه الأرض. نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(ص) أنّه كان يقول كل صباح: "الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور".(3)
فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً، كما أن الظلام باعث على النوم والهدوء.
في عالم الطبيعة أيضاً، فإنّ الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية و يستجد انبعاثٌ فيها بمجرّد سطوع أوّل اشعة للشمس، فينطلق كل واحد منها إلى سبيله، وحتى النباتات تتنفس وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور، أمّا عند مغيب الشمس، فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء العمل والسكون، الطيور تؤوب إلى أوكارها، الموجودات الحية تفيء إلى الإستراحة والنوم، حتى النبانات تغطُّ في نوع من النوم.
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ ساترا بظلامه كاللباس ﴿وَالنَّوْمَ سُبَاتًا﴾ راحة للأبدان بقطع الأعمال ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ منتشرا فيه للمعاش وغيره أو بعثا من النوم إذ هو واليقظة كالموت والبعث.