سبب النّزول
نزلت هذه الآية بشأن حرب "بدر".
يقول المفسّرون إنّ عدد المسلمين يوم بدر كان 313 شخصاً، منهم 77 من المهاجرين و 236 من الأنصار.
كان لواء المهاجرين بيد عليّ (عليه السلام)، وكان سعد بن عبادة صاحب لواء الأنصار.
وكانت عُدّتهم لا تتجاوز 70 بعيراً، وفرسين، وستة دروع، وثمانية سيوف، خاضوا بها تلك الحرب الكبيرة، في وجه عدوّ يزيد عدده على الألف، مع الكثير من السلاح ومائة فرس.
ومع ذلك فقد انتصر المسلمون بتقديم 22 شهيداً "14 من المهاجرين و 8 من الأنصار"، في مقابل 70 قتيلاً و 70 أسيراً من الأعداء، وعادوا إلى المدينة تزيّنهم أكاليل النصر.
وهذه الآية تحكي جانباً من معركة بدر(1).
التّفسير
معركة بدر والتأييد الإلهي:
تعقيباً على الآيات السابقة التي حذّر القرآن فيها الكافرين من الاغترار بالمال والأبناء والأتباع، جاءت هذه الآية شاهداً حيّاً على هذا الأمر، فتدعوهم إلى الاعتبار بما جرى في معركة بدر التاريخية.
(قد كان لكم آية في فئتين التقتا).
كيف لا تكون لهم عبرة، وهم يرون أنّ جيشاً صغيراً لا يملك شيئاً من العدّة، سوى الإيمان الراسخ، ينتصر على جيش يفوقه أضعافاً في العدد والعدّة.
فلو كان المال والعدد- بغير إيمان- قادرين على شيء لظهر مفعولهما في معركة بدر، ولكن النتيجة كانت معكوسة.
(يرونهم مثليهم رأي العين).
تقول الآية: إنّ الكفّار كانوا يرون جند المسلمين ضعف عددهم.
أي أنّهم إذا كانوا 313 شخصاً كان الكفّار يرونهم أكثر من 600 شخص(2).
ليزيد من خوفهم، وكان هذا أحد أسباب هزيمة الكفّار.
وهذا- فضلاً عن كونه إمداداً غيبياً من الله انتصر به المسلمون، لأنّ الله يمدّ عباده المجاهدين المؤمنين بمختلف السبل- كان أمراً طبيعياً من حيث جانبه الظاهري، وذلك لأنّ الضربات الشديدة التي أنزلها المسلمون- بقوة إيمانهم وتربيتهم الإسلامية- على الأعداء، أثارت فيهم الرعب والهلع فظنّوا أنّ هناك قوّة أُخرى التحقت بالمسلمين، ولذلك ظنّوا أنّ المسلمين يحاربون بضعف قوّتهم الأُولى ويسيطرون على ميدان الحرب سيطرة تامّة، مع أنهم قبل الدخول لم يكن يخطر لهم ذلك أبداً، بل كانوا يرون المسلمين أقلّ ممّا كانوا عليه.
في الآية 44 من سورة الأنفال إشارة إلى ذلك أيضاً (وإذ يريكمُوهم إذا التقيتم في أعيُنِكم قليلاً ويُقلّلُكم في أعيُنِهم ليقضي اللهُ أمراً كان مفعولاً).
تذكّروا يوم لقائكم بهم في ميدان الحرب، فقد أظهرناكم في أعينهم قلّة لكي لا يتجنّبوا حرباً ستؤدّي إلى هزيمتهم- كما أظهرناهم في أعينكم قلّة لكي لا تضعف معنوياتكم في حرب مصيرية -.
وما أن بدأ الحرب حتّى تبدّلت المشاهد، وظهر المسلمون في أعين الأعداء بأعداد مضاعفة، فكان هذا واحداً من أسباب هزيمتهم.
وجاء في بعض الروايات أن أحد المسلمين قال: قبل نشوب القتال في بدر قلت لرفيق لي: ألاّ تظن أن عدد الكفّار سبعون نفراً؟ فقال: إني احسبهم مائة نفر، ولكن عندما انتصرنا في الحرب وأسرنا منهم عدداً غفيراً سمعنا أن عددهم ألفنفر(3).
(والله يؤيّد بنصره من يشاء).
تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله ينصر من يشاء.
لقد سبق أن قلنا إنّ مشيئة الله وإرادته لا تكون بغير حساب، بل هي تكون بموجب حكمته وفي حدود لياقة الأفراد، أي أنّ الله يؤيّد الذين يستحقّون ذلك.
جدير بالذكر أنّ النصر الإلهي للمسلمين في الحادثة التاريخية كان ذا جانبين، فقد كان "نصراً عسكرياً" و "نصراً منطقياً".
فمن الناحية العسكرية:
انتصر جيش صغير مفتقر إلى المعدّات الحربية على جيش يبلغ أضعافه عدداً وإمكانات.
ومن الناحية المنطقية: فإنّ الله كان قد أخبر المسلمين صراحة بهذا النصر قبل بدء الحرب.
(إنّ في ذلك لعبرةً لأُولي الأبصار).
في ختام الآية يؤكّد سبحانه أنّ الذين وهبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما هي، يعتبرون بهذا الانتصار الذي أحرزه أُناس مؤمنون، ويدركون أنّ أساس هذا الانتصار هو الإيمان... الإيمان وحده(4).
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ خطاب للمشركين أو اليهود أو المؤمنين ﴿فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا﴾ يوم بدر ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ﴾ يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريب ألفين أو مثلي عدد المسلمين ستمائة وستة وعشرين قللوا أولا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم كما قال ويقللكم في أعينهم فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا أو يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ثقة بالنصر الذي وعدوه في فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وقرىء ترونهم بالخطاب ﴿رَأْيَ الْعَيْنِ إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ رؤية ظاهرة ﴿وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء﴾ كما أيد أهل بدر ﴿إن في ذلك﴾ التقليل والتكثير ونصر القليل على الكثير ﴿لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ عظة لذوي العقول.