وتدحض الآية الثالثة كلّ هذه الخيالات الباطلة وتقول: لاشكّ أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوماً يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كلّ فرد قائمة أعماله، ويحصدون ناتج ما زرعوه، ومهما يكن عقابهم فهم لا يُظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كلّ نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون).
يتّضح من (ما كسبت) أنّ عقاب المرء وثوابه يوم القيامة وفوزه وخذلانه في العالم الآخر إنّما يرتبط بأعماله هو، ولا يؤثّر فيه شيء آخر.
هذه حقيقة أُشير إليها في كثير من الآيات الكريمة.
سؤالان
1- أيمكن للإنسان أن يختلق كذباً أو إفتراءاً وينسبه إلى الله، ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إليها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود؟
ليس من العسير الردّ على هذا السؤال، وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر.
إنّ العقل الإنساني يسعى أحياناً إلى استغفال الضمير بأن يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره.
كثيراً ما نشاهد أُناساً ملوّثين بالذنوب الكبيرة، كالقتل والسرقة وأمثالها، على الرغم من إدراكهم تماماً قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنّهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءاً كاذباً على ضمائرهم، وكثيراً ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنّهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها.
ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والإفتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوع- ولم تعن بالبحث عن الحقيقة- بصورة عقائد مسلّم بها.
2- يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد "بالعذاب لأيام معدودات" منتشر بيننا نحن المسلمين أيضاً، لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي، إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيراً من العذاب.
ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط، بل أنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلاَّ الله، إلاَّ أنّ عذابهم لا يكون أبدياً خالداً.
وإذا وجد حقّاً بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالإحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمّة الأطهار يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاؤون من الذنوب، ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب، فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته.
ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ إمتياز خاصّ للمسلمين، بل نعتقد أنّ كلّ أُمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضاً، بغضّ النظر عن عنصرها.
أمّا اليهودفيخصّون أنفسهم بهذا الإمتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري.
وقد ردّعليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية 18 من سورة المائدة: (بل أنتم بشرممّن خلق).
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾ تهويل لما أعد لهم في الآخرة ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ جزاءه ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ الضمير لكل نفس لأنه بمعنى كل الناس.